لاحظ الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي، من خلال تجربته الشخصية المعروفة، أن البشر ليسوا ضحايا السجون المادية والموضوعية التي قد يعرفونها أو لا يعرفونها فحسب، بل إنهم ضحايا سجون وأسوار يشيدونها داخل ذواتهم على شكل مركبات من الأنانية وحب التملك والارتكاسات القمعية المكتسبة.
ويشير اللعبي عن حق الى أن كل مشروع تحرر لا يستهدف إلا كسر القيود الخارجية محكوم عليه بإعادة تشييد سلسلة جديدة من السجون، لأن الأسوار الداخلية أكثر مناعة وتأثيراً من الأولى.
شاعر الهند وحكيمها الكبير طاغور يرى أن كل ما فعلته حضارة الحجر أنها دمرت الإنسان، وكي “تتأنسن” البشرية من جديد عليها التحرر من جملة المصادرات التي نفذتها هذه الحضارة لحريات الإنسان.
هذه العودة إلى “داخل” الإنسان أو إلى ذاته أضحت مظهراً من مظاهر الاتجاهات الفكرية والفلسفية الجديدة التي تنبهت إلى أن العقلانية الفجة بكافة مظاهرها إذا انصرفت إلى الخارجي أو الموضوعي، فإنها صادرت قسطاً كبيراً من قدرات الإنسان وحرياته.
من هنا التأكيد على قدرة الحضور الداخلي، على تحرير الذات من القيود المنيعة التي نسجت حولها، وليست هناك مفارقة في أن تجري العودة للفلسفات الشرقية التي كانت أولت العالم الروحي، الداخلي، للإنسان اهتمامها الأكبر.
وحتى مفهوم الاغتراب، الذي هو إحدى ثمار الفلسفة العقلانية منذ هيغل ركز على اغتراب الإنسان عن الأشياء من حوله، عن العمل وعن السلعة وسواها، ولم يكترث، كما يليق، باغتراب الإنسان عن الذات، على النحو الذي تصورته بعض اتجاهات علم النفس كافتقاد الشعور بالذات وبالعفوية والفردية.
ولو تأمل المرء في حياته للاحظ أن القمع الداخلي للذات يضاهي القمع الخارجي لها، فبينما تتحول الأشياء من حولنا وتتراخى صرامة القيود الموضوعية، تزداد القيود التي سبكناها نحن داخل ذواتنا قوة وتماسكا، فتعيقنا من الانعتاق، من الجرأة ليس فقط في السلوك الشخصي، وإنما عن تفهم سلوك الآخرين والتسامح مع رغباتهم، التي هي بالمناسبة رغبات مكبوتة في دواخلنا نكابر إذ نتجاهلها.
لو تساوق الإنسان مع حريته التي جبل عليها، لو ولج ملكوت الحرية الجميل بتفاصيله المدهشة، لرأى ما رآه شاعر الهند وحكيمها طاغور حين طفا بعيدا إلى مكان قصيّ، ودفع الباب الموصد في ذهنه فانفتح على دار خرافية.