في الزنزانةِ الواسعةِ تخشب. لا ينطق. لا يأكل. قرب الجدار جلسَ متمددا. اللحافُ إزارٌ قديمٌ مهترئٌ ألوانهُ ذابت. مجموعةُ السجناءِ تطالعهُ كثيراً، يمرُ الليلُ والنهار، تجري الأيام، وهو عند الجدارِ صامت، جسدهُ يتآكل، تـُوضعُ قربه صينية الطعام ولا يمسها. يتحدث السجناءُ الغرباءُ الذين التقوا بصدفةِ المكان. هذا سقطتْ من سيارتهِ امرأةٌ. ذاك أجنبي طعنَ زميلَهُ في الباخرة الراسية في الميناء. آخر قَدِمَ من جزيرةِ السجناءِ يقرأ الإنجيل.
في داخلهِ ضجيجٌ هائلٌ، دواماتٌ من الأشياءِ والصورِ والصرخاتِ، يحاولُ أن يقبضَ على شيء، على وجهٍ أو حركةٍ، لكنها تمورُ، تنخطفُ من يديهِ وتتحولُ إلى وهجٍ يحرقه، يحاولُ أن يهدأَ، المرئياتُ تنطلقُ؛ صرخاتُ أمهِ: يا عبدالرحيم ماذا تضعُ تحت السرير؟ إنها أسلحة !.. الضابطان يضعان يديه وراءَ ظهره. الغرفةُ المعتمةُ والضرباتُ الموجعة، وهو يرى نفسه الآن في الخندق، في أغوارِ الأردنِ، المياهُ الباردةُ تنزلُ عليه، يمسكُ البندقيةَ حارساً، تصيحُ أمه: يا عبدالرحيم!
الوقفةُ الطويلةُ المؤلمة بين الجدران، النهارُ المتداخلُ بالليل، سلكٌ صغيرٌ وجدوه في البيتِ دل عليه، سلكٌ تافهٌ نسيهُ علقهُ في تلك الغرفة، ربطوهُ من قدميه وتدلى، رأى الموتَ الأزرق، سُلخَ جلدُهُ حياً.
لا يتكلم، لا يأكل، جسدهُ يرحل، الرفيق الذي يكلمه في الزنزانة ويقرأ الإنجيل لا ينظرُ إليه، نظرهُ متخشبٌ على الجدار، موجهٌ لجهةِ الصورِ الهاربةِ السوداء البيضاء، (نعم ألقيتُ القنبلة على مركز الشرطة)، انتهى كل شيء، بالنسبة إليه، صارَ جثةً، علموه أن الأعترافَ كارثةٌ، انتهاءٌ، موتٌ، وها هو يموت، لكنه لم يمتْ بالنسبة للمحققين، انفتحتْ شهيتهم على ذاكرتهِ وضلوعه.
نظرهُ متحجرٌ، والحياةُ تنزفُ عنه، السجناءُ يتبدلون، مثل حقل من الرمل والمرايا، الرفيقُ الإنجيلي يعودُ لجزيرة السجناء، الأجنبي يُحكم عليه بالسجن الطويل، يسمعهم يتكلمون، لا يشارك، الرجلُ صاحبُ العشيقة المنتحرة يُخلى سبيله، يأتي لصوصٌ، قوادون، رثاثُ الأزقةِ كله يتجمعُ حوله، ونظرهُ منصهرٌ، يبدأ جسمهُ يمضغُ اللقمات القليلة، الجسمُ يستجيبُ للحياة، قررَ الموتَ سابقاً، لا مكانَ لخائنٍ، الجندي الذي تدربَ في الأغوار سلمَ سلاحَهُ للعدو.
في الزلزالِ الطويلِ لأرضهِ وأحشائهِ كان يطيرُ في الهواء. البيتُ الكبيرُ لربان البحر العظيم يستقبله، هناك في الخلفية البحرية حشودٌ من السفن وعقود اللآلئ والموانئ، المدينةُ الأسطورةُ ذات المعلقاتِ المائة تدشنُ روحَهُ للسفر، البيتُ يضجُ بالكلماتِ المطرية المخصبة، وهو الفتى يصحو في نوبةِ السهرِ على موعدٍ مع الخطرِ:
– يا عبدالرحيم اخترتكَ لتكون أول المتدربين.
حين يعود للأزقة الضيقة، حين يدخلُ بيتَهم الواسع، ويرى الغرفَ الكثيرة، وأمه وأباه، وإخوته، ينتعشُ ويصنعُ أجنحة.
البيتُ الواسعُ للربان العظيم يضخُ شباباً وفتوةً وورقاً وكلُ أحجارهِ تنزفُ من عذابِ الغواصين، يحيلُ الورقَ قنابل ودفاتر وتقارير وعيوناً، وأخشابُ البيتِ تصدرُ أصواتاً غامضة.
يقولُ لأمهِ وأبيهِ سوف أذهبُ للسياحة، وهو لا يملكُ شيئاً، التذكرةُ تابوتٌ، وهو يرمي العدوَ منذ الآن، يطلقُ بلا خوف، الطائرةُ تحطُ على بركانِ قلبهِ، يصلُ الأغوارَ، يجلسُ ببدلتهِ الأنيقةِ منتظراً صلة الوصل، المدربُ يأتي ويتطلع إليه بدهشة يقول: (أجئت لحفلة ؟ قمْ انزعْ هذه البدلة!)، يأخذونه تحت الأرض، كهوفٌ، وظلامٌ، وجري عنيف، المياهُ الموحلةُ تطرطشُ على جسمهِ، البردُ عاصفٌ، يضربُ الأغصانَ، يحس بدمٍ على وجههِ، صرخاتُ المدرب: أجرِ، أجر!، حبلٌ يتدلى من السماء، الأنبياءُ صعدوا هنا إلى النور، الحبلُ يرتعشُ، وهو يتدلى بلهبِ النجوم، يصعدُ، من تلك المدينةِ الحجريةِ الرثةِ يصعد، يقتربُ من وجوهِ ملائكة السماء، أئمة الروح المسيطرين على الضوء والعتمة، ينقعُ في بحيرةٍ من الروث والدم، يذبحُ دمى كثيرة، يطعنُ أصناماً تتحكمُ في آبار الكلام والزيت.
يقدمون له شهادةً؛ خريطةً من الجراحِ في جسدهِ، ويعودُ لأزقتهِ، لبيتهِ الواسع، ونفس البشر يجلسون عند الدكان يتهامسون:
– أليس هذا عبدالرحيم؟!
– ذهب لإجازة.
– إنه لم يعمل بعد.
– لا أشتغل في شركة تأمين على الحياة.
وهو موعودٌ بإطفاءِ حيوات كثيرة. كل تلك البوم الرابضة في بستان. ولكن بيت الربان العظيم الذي استقبلهُ بحرارةٍ تركهُ في الظلال، عاد إلى المدنيين، أنغرزَ في شركة التأمين، يستقبلُ الضحايا والمفلسين والعيارين، منذ الصباح وهو يعاين التقارير والسيارات وأسعار الكراجات، ويخرجُ في المساءِ مغبراً بالآلام، ويتوارى في الظلام، يطيرُ بأجنحةِ الريش وبندقيته صدئت، يقولُ بترددٍ لابن الربان: (هل سأظل هكذا عاطلاً؟!)، الرجلُ التاجرُ الأنيق مشغولٌ بالصحف وبقهوة الصباح في الشيرتون وبمكالماتٍ هاتفية كثيرة، وبمتابعةِ كل شيء في الكون، يتركُ عبدالرحيم بيت الربان الكبير، الذي يصيرُ سكناً للعمال المهاجرين الذين ينشرون ملابسهم الرطبة على الشرفات، الشرفات التي كانت تستقبلُ الغواصين والمحاربين، يقول : (تغير كلُ شيء يا عبدالرحيم، لم تعدْ الرصاصةُ كلمةَ السر !)، يغرقُ في الكتب والورق والكلام، ينعزلُ، يشيبُ، يعتني بصحته، يقول له التاجر: (يا عبدالرحيم أقرأ، أقرأ، أنت شبه أمي !). يغضب، يتطلع لبركة السباحة التي يقفز إليها، إلى البار الجميل قربها، وبه كل الزجاجات، يهمس (يا لضيعة النضال!)، يتدفق في الحارات التي تتهدمُ شيئاً فشيئاً مثل رجل مشلول يموتُ ببطءٍ، يصرخُ في وجهِ الربان الغارق في عتمة المساء: (أنت الذي علمتني.. الحياة..)، يطلقُ رصاصةً في عينيه.
حشدٌ من الشباب يخيمُ في ظلال الزيزفون والبؤساء والغثيان والفولاذ الذي سقيناه، أشجارُ النخيل تنزلُ عليهم بركاتها الأسطورية، تحتضنُهم بمودةِ العذراء الإلهية، السواحلُ تمتدُ تحت أرجلهم مثل ألسنة عطشى للقبل، وجوهٌ كثيرة متلونة، متقلبة، متغيرة، منصهرة، يحرقون الورقَ والكلامَ ويسبحون في مياه النار. يشعرُ بفرح، يجدفُ، يسبحُ محترقاً، تعودُ الكلمات إلى مجاريه اليابسة، يجدُ رئيسَهُ في شركة الموت صديقاً، يمضيان في كل مساء للشيرتون يحتسيان الجعةَ الباردةَ ويشاهدان مياهَ الخليج المستباحة لكل قرصان.
طيورٌ جارحة تحلق، أصدقاء غابة الزيزفون يسقطون في شبكات الشر، آلهةُ الجحيم تستدعيهم لحفلاتِها الصاخبة، برميلُ القمامة الكبير مكونٌ من ورق وخيبات واعترافات وصواعق لم تنطلق، ومرايا مشوهة وأجنة أطفال مرمية. يُصابُ بأزمةٍ كحولية، مديرُ شركة الموت المتأنق، المتزوج كل سنة، الناقع في برك العطور، يقودهُ للفندق ولمرقصه المليء بالسيقان اللاعبة في القلوب، نهر البيرة يتدفق حتى يغرق في الأغوار، يصيحُ: (كلما ظهرت بندقية نظيفة كسروها، انظر إنهم يحرقون الخيام)، الدباباتُ تدخلُ المخيمات. والكحولُ الذي لا يزول لا يفعل شيئاً لرأس عصية على النوم والاستسلام.
ببدلتهِ المكوية دائماً، الشاحبة اللون، وبشعرهِ الكثيف الأسود، وبمشيه الهادئ الرصين في الخط المستقيم، وبنظرتهِ القلقة الحذرة، يتوجه عبدالرحيم إلى سيارته.
حشدُ الرجالِ على الكراسي يرمقه، يهمسون:
– لم يتغير كثيراً، كأنه يوم غادرنا.
– سمن بعض الشيء، يبدو أنهم يطعمونهم بشكل زين في السجن.
– بل من الجلسة الطويلة هناك.
التعليقاتُ نفسها، لكن يتبدلَ الرجال، تتغيرُ الملابسُ والسحنات، صبيةٌ يحتلون مكانهم ويدخنون نفس السجائر والنارجيلات، يستعيرون نفسَ الأمراض والخرافات، نفسَ الدروبِ الحجرية الذائبة التي تخرجُ منها هذه الأشباح.
حتى النساء حاملات القفف على رؤوسهن يطالعنه:
– يصلح لابنتك يا خديجة، شاب من الأجاويد!
– لا نريد أهل الحبوس، ابحثي عن ابن أغنياء.
لم تصبهُ الإبرُ، سمعهُ مرهفٌ، والأسى لا يعرفهُ، تمازجَ جلدهُ وجدرانُ مدينتهِ العتيقة، التي تتساقطُ أحجارُها، وتتمددُ فوق جهات البحر، وتنفقُ الأسماكُ في جداولها. زوايا الروح هنا وأجنحتُها اليابسة، احترقتْ في الزنزانات ورفرفتْ على الشهداء.
كان في قاعةِ المحكمة، رجالٌ قليلون، وهو مقيدٌ نازف، محاميه خالد وحده يصلهُ بالفراشات، وبأهلهِ، وبمرضِ أبيه، وبموت أمه، يكّونُ حلقةَ وصلٍ بين انفجارات الخلايا وبفواتير الحياة والموت، لا يسخر من فعلهِ الغريب وإلقائه قذيفة على مركز شرطة، قذيفة انفجرت ولم تـُصبْ سوى الهواء، يواسيه، يبحثُ عن كلِ ثغرة في شبكةٍ مهلهة، اعترافات زائفة، وصلات مصطنعة، لكن جسمَ القذيفة موجودٌ على الطاولة، القذيفةُ التي في فسيفساء من لحمه وأيامه.
– حُكم عليكَ بعشرِ سنوات من السجن، ماذا تقول؟
– عشر، عشر ليكن.
تنفتحُ البوابةُ الصدئة ويخرج. عشرُ سنواتٍ احترقتْ وراء ظهره. بيتُ الأهل خرابة. المدينةُ احتلها الغرباءُ البؤساء. عشرُ حياتٍ ضخمة بلعتهُ ولفظتهُ سميناً بعض الشيء، كل يوم كان مدىً، في الجزيرةِ المقذوفةِ في اليم، لم يرْ سوى ظهور الرجال المجلودة، والصخور، ومستنقعات الدماء والأحلام، ونسرُ النجمةِ سقط على الحصى، بين الضحايا، وأمعاؤه مفتوحة للبوم، وللعيون، ويرى رصاصاته لا تطير في المدى، والمخيمات تحترق دائماً، لا يموت أسى، يتعلمُ الحروفَ وينسج كلمات مبعثرة بالندى، يخرجُ من البوابة الصدئة لمدينةٍ نازفةٍ من كل حصاة. يعودُ لشركة التأمين على الحياة ليوسع الموت، ورئيسهُ يأخذه لخمس نجوم كي ينسى ولا ينسى. في الرغوةِ الفضيةِ رشوة، في الأجر الزهيد الذي يعطيه إياه دعاية وسخة واصطياد عصفور خرجَ محروقاً من الزنزانة، وعليه أن يأكل ويركبَ الباصَ لبيته الخرابة، وينقعَ من الصباح حتى المساء يعاين الحروق والصدمات والصدأ في السيارات والرجال. رئيسه يحتضنه وكلٌ منهما يدفع فاتورته.
الظلامُ خيم على الأرض، وليس ثمة سوى الخفافيش تطير في الشوارع والعيون. المجالسُ التي يحضرها تهذي، برقيات وأوراق كثيرة تأتي من الخارج، يسحبُها عبدالرحيم من الآلة، ويرى الحارات تحترق، يقول رئيسه: هي الولادة الحقيقية، تضحيتك لم تذهب سدى، مستشفى ولادة يحترق، يهتفُ رئيسهُ: كفاحنا يتقدم، يتوقفُ عن نسخ الأوراق، يصرخُ به رئيسهُ: ما نفعلهُ انتقامٌ لك. ماذا فعلتَ غير أن قذفت علبة طماطم على مبنى وخسرتَ عشر سنين من شبابك، عشر سنين، انتقمْ الآن!
الحشد عند الدكان:
– أليس هذا هو عبدالرحيم؟
– كأنه مريض!
– لا إنه وحيد!
البيتُ معتمٌ، فواتير عديدة لم تـُدفع، إخوتهُ الصغارُ تزوجوا وانجبوا وملأوا الدنيا ضحكاً، وهو يعودُ كلَ مساء معتم، في نفس طرق المدينة الرثة، بين حشود اللغات الأجنبية، يبحثُ عن فتاتٍ معدني ليشتري خبزاً وقهوة، قتلوكَ خلال عشر سنين ملعونة، طردوكَ من كلِ وظيفة، ماذا تريدُ من هذا البلد الذي أكلك؟ دعهُ يحترق، تعود للشركة، تتجمدُ أصابعُك وأنت ترى سطور الكلمات: حرائق وأجنة ناضبة، وثللٌ تسكرُ وراء زجاج مرفه، وتتبادل الأنخاب.
(لا أستطيع أن انسخ ذلك وأنشره)، رئيسهُ يتجمد ولا يكلمه، يعود بالباص، تأتيهِ رسالةُ فصل. يمشي بين الحشود، يسمع صرخة رئيسه: (صرتَ جباناً!)، حتى حقوقه تبخرت، يعودُ لزقاقهِ، نفس الأحجار البحرية الصلدة، نفس الإيقاعات البحرية الراقصة والدور المهدمة والغربة، ويرى الثلة تجلس عند الدكان وتحدق فيه بعيونها المعشية.