“أبي نائم، وأمي تصلي، بينما تفكر خالتي في حساء الجزر، آنا تستعد للاغتسال، وقد جهزت الحمام بالفعل، أكتبُ وأتأمل: كم مرة قطعت عليّ أفكاري لأنني تجرأت وشرعت في الكتابة؟ ثم الطب.. عملية جراحية كل يوم. أخبر آنّا ايفانوفنا أن بائع الصحف العجوز قد توفي في المستشفى متأثراً بسرطان البروستاتا. نحن نحيا حياة طروب. نقرأ ونكتب وننطلق مساء في نزهات، ونستمع للموسيقا”.
هذا ليس مقطعاً في قصة من قصص أنطون تشيخوف، إنه مقطع من رسالة بعثها إلى صديق له يعمل موظفاً في الجمارك، ومع ذلك فإنه، في رسالته، كما قصصه، يسرد حزمة من الأحداث، كأنه لم يكن يكتب رسالة لصديق، وإنما يكتب قصة جديدة ليرسلها لإحدى المجلات كي تنشرها، فيسد عائدها المتواضع بعض حاجات حياته.
أستاذ ألماني أنفق نحو عشرين عاماً يتقصى رسائل تشيخوف لنسائه ووالديه وإخوته وأصدقائه، وفي النتيجة أصدر ألبوماً ضخماً من هذه الرسائل، إضافة إلى كمية هائلة من الصور والبورتريهات النادرة للكاتب الكبير الذي مازال العالم يعيد اكتشافه.
المجلس الأعلى للثقافة في مصر أصدر النص العربي من هذا الألبوم الضخم، الذي وضعه علاء عزمي.
بوسعنا أن نقضي ساعات طوالاً من المتعة في قراءة رسائل تشيخوف والتأمل في العدد الكبير من صوره التي تظهر ما في ملامح وجهه من ذكاء ومهابة وطيبة ورقة. وسيكون رائعاً أن نجد في هذه الرسائل ذات الروح الفياضة التي نعرفها في قصصه. إنه يروي الحياة، التي لا يجوز برأيه تعريفها بكلمة أو عبارة أخرى. “تسأليني ما الحياة؟ سؤالك غريب، الحياة هي الحياة”. هكذا يكتب في إحدى رسائله، محرضاً إيّانا على التبصر في هذا القول، كي نأخذ الحياة كما هي بحلوها ومرها، بوقائعها ومصادفاتها ومفارقاتها.
يبدو هذا الأمر متسقاً مع روح هذا الرجل الرائع الذي علمنا الحياة، وهو يقص ضجرها وفرحها، في توقه الذي لم يهدأ للحرية والحب والأمان.في واحدة من الرسائل المؤثرة التي بعثها لابن عمه يقول: “إذا بعثت لك برسائل لأمي فسيكون من الأفضل أن تعطيها لها سراً لا أمام الآخرين، فهناك أشياء في الحياة لا يبوح بها المرء سوى إلى شخص وحيد يطمئن إليه، وهو ما يدعوني للكتابة لأمي من دون الآخرين. في هذا العالم الفاسد لا يتبقى لنا أخلص من الأم”.