يُقارن الانهيار في أسعار النفط الذي شهدته أسواق النفط العالمية في الربع الرابع من عام 2008 تحت تأثيرات الأزمة المالية/الاقتصادية العالمية، إذ فقدت الأسعار أكثر من 70٪ من قيمتها في ظرف زمني قصير جداً – يُقارن بالانهيار الهائل الذي تعرضت له أسعار النفط في ديسمبر عام 1997 ومطلع عام 1998 بعد قرار أوبك في اجتماعها في جاكرتا في نوفمبر 1997 بزيادة سقف إنتاج المنظمة بواقع 5,1 مليون برميل يومياً بناءً على توصية لجنة مراقبة الأسعار في المنظمة، ووصل يومها سعر البرميل إلى حوالي عشرة دولارات والنفط الثقيل إلى ما دون ذلك بكثير. وقد استغرق الأمر بعض الوقت وتطلب القيام بجهود منسقة تم استدراج بعض المنتجين من خارج أوبك إليها، مثل المكسيك، من أجل تأمين خفض فاعل وملموس للمعروض النفطي في السوق. ولم تتمكن الأسعار من استعادة عافيتها والوصول إلى سقف الثلاثين دولاراً للبرميل إلا بعد مرور بضع سنوات من الالتزام بحصص الإنتاج. إلا أن هذه المرة تُلاحظ سرعة استعادة الأسعار لزخمها الصعودي بشكل لافت، حيث قفز سعر برميل النفط في غضون ثلاثة أشهر بمقدار الثلثين ووصل إلى ما فوق عتبة السبعين دولاراً، وذلك على الرغم من أن فرص التحسين والاستعادة هذه المرة تكاد تكون معدومة في ظل الانهيارات المالية الكبرى التي خلفتها الأزمة المالية/الاقتصادية العالمية على كافة مناحي النشاط الاقتصادي في كافة أنحاء العالم وجعلت أجرأ وأكثر المتفائلين تجاسراً، يتوارون ويتفادون التورط في إعطاء أية تنبؤات استشرافية في الوقت الذي تتزاحم فيه مؤشرات التراجع الاقتصادي والإفلاسات. صحيح أن ‘أوبك’ قد تدخلت ثلاث مرات في السوق بخفض إجمالي إنتاج أعضائها لسحب الفائض وموازنة العرض مع الطلب، حيث بلغ إجمالي تخفيضاتها 2,4 مليون برميل يومياً، بنسبة التزام تقترب من 80٪ من قبل الدول الأعضاء، إلا أن هذا الإجراء لم يكن له أن يؤثر على مستوى الأسعار بهذه السرعة الفائقة وبهذا المستوى من الارتفاع لولا أن توفرت عوامل تنتمي للأساسيات الاقتصادية (Fundamentals) بالدرجة الأولى تُسوِّغ وتدفع بهذا الاتجاه الصعودي. وعلى عكس توقعات تقرير وكالة الطاقة العالمية بعدم وجود مؤشرات طلب إضافية على النفط ،وتوقعها لحدوث انخفاض بمقدار 56,2 مليون برميل يومياً خلال عام ,2009 وهو ما يزيد عما كانت توقعته سابقاً بانخفاض على الطلب بحدود 7,2 مليون برميل يومياً، بحيث إنها عزت الارتفاعات الأخيرة في أسعار النفط إلى تحركات للسوق ضمن الإطار النفسي المتماشي مع مؤشرات المخزون الأمريكي والارتفاع المسجل لدى أسواق المال وانخفاض الدولار، وأنها لم تنتج عن ارتفاع الطلب أو تحسن حقيقي في الاقتصاد العالمي - نقول إن محافظة الأسعار على مستوياتها المرتفعة واحتفاظها بزخمها الصعودي على مدى ثلاثة أشهر متصلة لا يمكن أن يعزى إلى عوامل نفسية وحسب، وإنما هنالك تحسن في مؤشرات أداء الاقتصاد العالمي رصدته بعض المؤسسات الاقتصادية الدولية وعكسه احتفاظ الطلب العالمي على مصادر الطاقة وبضمنها النفط، بقوة دفعها، إلى جانب بعض العوامل المساعدة. من بين هذه العوامل: (1)نزعة المستثمرين في تأمين قيمة أصولهم الاستثمارية ضد الاتجاه الهبوطي للدولار الأمريكي وذلك بالاستثمار في أسواق السلع وبضمنها النفط. (2)انخفاض الاحتياطي النفطي الأمريكي الذي كان أعلن عنه معهد البترول الأمريكي (American Petroleum Institute) حيث انخفض هذا الاحتياطي بواقع 96,5 مليون برميل إلى 9,357 مليون برميل ..وهو المستوى الأدنى المسجل منذ شهر مارس الماضي. وبما أن صفقات الاتجار في النفط مقومة أساساً بالدولار الأمريكي، ولما كانت السلطات الأمريكية قد قامت مطلع العام الجاري (في ذروة احتدام الأزمة المالية العالمية) بشراء ما قيمته تريليون دولار (ألف بليون دولار) من الأصول المسمومة، فقد كان لابد وأن يعكس ذلك نفسه سلباً على الدولار الأمريكي حيث فقد الأخير منذ فبراير الماضي فقط 10٪ من قيمته أمام اليورو. ولابد للباعة والمضاربين في بورصات النفط من رفع سعر البرميل لتعويض خسائرهم من نزف الدولار. ولا يقتصر هذا الأمر على النفط وإنما يشمل كافة المعادن الطبيعية والمواد الخام. فقد ارتفعت أسعار النيكل، على سبيل المثال، في سوق لندن للمعادن (LME) تسليم ثلاثة أشهر بنسبة 4٪، والألمنيوم بنسبة 2,1٪، والنحاس بنسبة 7,1٪. ومنذ نهاية شهر مايو الماضي ارتفعت أسعار المعادن غير الحديدية بنسبة تتراوح ما بين 13-24٪. خلاصة القول هو إنه لا جدال في أن ما يسمى بالعوامل الفنية (ومنها العوامل النفسية) تلعب دوراً أساسياً في تأرجحات أسعار (Price Fluctuations) النفط هذه الأيام، ومنذ التعافي الملحوظ (منذ حوالي ثلاثة أشهر)، خصوصاً فيما يتعلق بتذبذبات سعر صرف الدولار الأمريكي. ولكن مفعول هذه العوامل هو قصير المدى ويتأرجح حول ثلاثة دولارات تقريباً صعوداً وهبوطاً، وقد لاحظنا كيف انخفضت الأسعار يوم الاثنين 22 يونيه الماضي بواقع ثلاثة دولارات إلى 55,66 دولار نتيجة لضغوط عاملي هبوط الدولار، والهبوط الملحوظ لأسعار الأسهم في البورصات العالمية الرئيسية (باعتبارها تؤشر إلى أداء الشركات ومن خلالها الاقتصاد). ولكن احتفاظ سعر النفط بمستواه ،واتجاهه الصعودي على مدى أكثر من ثلاثة أشهر لا يمكن أن يعزى إلى عوامل فنية (
صحيفة الوطن
5 يوليو 2009