المنشور

تطور الصدام ومجرياته المحتملة

تركزت الأخبار والتحليلات الدائرة حول جمهورية إيران الإسلامية، سوى قبل الانتخابات أو بعد نتائجها مباشرة، أو حول النزاع الدائر بين الطرفين الأول خسر في صناديق الاقتراع، فيما نجح الثاني وهم المحافظون في إعادة انتخاب احمدي نجاد للرئاسة لدورة ثانية وبنسبة بلغت 63% من نسبة الأصوات، مما أثار شكوكا في تلك النسبة، خاصة وان الحملة الانتخابية المضادة لنجاد أثارت موضوع احتمال التزوير في مراكز التصويت، نتيجة وجود قرائن ودلائل ـ حسب ادعاءات الإصلاحيين ـ حول تلك الممارسات غير القانونية، خاصة وإذا ما عرفنا ان الانتخابات لم تتميز بالشفافية الكاملة وفق تقويمات ومعايير الرقابة الدولية للانتخابات بسبب غياب جهات دولية وخارجية تشرف على العملية الانتخابية، تاركة مصير الانتخابات بيد وزارة الداخلية، وهي جهة لا يمكن الركون إليها والثقة بها، لكونها جهة تنفيذية وعملت سابقا في ظل حكم رئاسة نجاد نفسه، والاهم من ذلك، إن في الدول الديمقراطية تصبح الانتخابات من صلاحيات وزارة العدل، ومع ذلك لا يمكن الركون على أي وزارة في السلطة مهما تذرعت بعدلها وتميزها الأخلاقي والعادل لفظا وقولا. ما نقله لنا العالم خلال الأيام القليلة الماضية من مشاهد سوداوية للمعارضة، وقصص خضراء ووردية من قبل النظام، وخطب وخطب مضادة في قلب الشوارع والمواقع الالكترونية، وتلويح برفع سقف الضغط وبردود شجاعة على المقاومة والاستشهاد، وبأحجام وأرقام تعبر عن حالة تصاعد وازدياد في عدد المعتقلين من المعارضة الإيرانية، بعضهم مثقفون معروفون وأساتذة جامعات وشباب وطلاب جامعات حسب وكالات الأنباء، في وقت تواصل وتصر السلطات، على ان المعتقلين ليسوا إلا قوى وعملاء للأجانب ومتآمرين ومخربين يستهدفون تغيير النظام الجمهوري الإسلامي. في هذا الفضاء السياسي الساخن، ـ وما بعد نتائج الانتخابات ـ لم تهدأ الأدخنة لمسيلات الدموع، مثلما لم تتوقف رفع أسماء وشعارات ونداءات التنديد لممارسات رجال الأمن والباسيج لمتظاهرين عزل وحناجر شابة منددة، لتتحول إيران وبعد ثلاثين عاما من حكمها «الثوري والرسالي» أمام مواجهة وانتفاضة مختلفة، وعرضه لمواجهات حقيقية تهز أركانه ابتداء من موقع المرشد الأعلى وانتهاء بشاب متحمس من الباسيج، مؤمن إيمان مطلق بتاريخ الثورة التي ولد على قصص تاريخها ومناهجها المدرسية. كل ذلك انهار خلال وبعد الثاني عشر من يونيو عام 2009، ففي هذه اللحظة من تاريخ إيران الراهن ندخل منعطفا مهما سيحدد مجريات النظام ومدى قبوله بالمساومة أو الدخول في قمة الدموية فيما لو بدأت عملية توازن القوى تختل في الشهور اللاحقة. قد يبدو الصدام حاليا أكثر هدوءا وسلمية بمعيار الصدمات الأهلية والعصيانات المدنية والحروب الأهلية المسلحة، وقد تبدو حركة الاحتجاج متوارية في تكتيكاتها بهدف أن لا تخسر المزيد من الضحايا دفعة واحدة، ولكنها في الوقت ذاته معنية باستنزاف قوى النظام والتيار المحافظ بالتدريج، لكي يبدو أكثر خلخلة وهستيريا وعزلة داخلية وخارجية. كما لا يمكننا الحكم عاجلا على سيناريو مجرى ذلك الخط المتعرج، صعودا ونزولا لكل حركة جماهيرية منظمة، تخرج لمواجهة نظام قبضاته غليظة ولديه مؤسسات منظمة في كافة المستويات الرسمية والشعبية. من هنا تبدأ حسابات المعارضة في اقتحام واختراق تلك المؤسسات والقاعدة الشعبية والفئات والطبقات الحيوية في المجتمع، وبدونها لا يمكن لأي معارضة النجاح على مدى طويل، إذا ما كانت تتوق لتغيير وجه إيران مستقبلا. وتستهدف كل حركة معارضة أولا بالاعتماد على تحريك الشارع عن طريق قوى حيوية وفاعلة كطاقة يومية، هم الطلاب والشباب والنساء، ولكنها، ثانيا، لن تنجح في إضعاف المؤسسة الدينية إلا بتفكيكها إلى قوتين تدخل احدهما وبشكل واسع كقوى حليفة للمعارضة. ثالثا من الضروري دخول الجيش كقوة موازية للحرس الثوري بهدف تحييده في الصراع، وفي حالة عدم الإذعان، فان نزول الجيش تصبح مسألة في غاية الأهمية وإلا لا يمكن كسب رهان المعركة بدون هذه القوة المنظمة، حتى وان رددت مقولة إنها لا تتدخل في الشأن الداخلي ومعنية فقط بالأمن القومي!! وهذا السيناريو لن يتم إلا إذا وجد الجيش إن الباسيج تحول إلى قوة قمعية رادعة وتسبب في سفك الدماء لمواجهة التظاهرات المستمرة والمساندة لقوى الأمن وبدون تبرير. وهناك قوة مهمة وحاسمة في كل الصراعات لكونها مرتبطة بوضع اقتصادي يؤثر في عملية شل البلاد، وهي الطبقة العاملة، والصناعية تحديدا، والكادحين في مؤسسات مهنية مختلفة، وبدون الإضراب العام لا يمكن للمعارضة خلخلة النظام في مفاصله كاملة. وهناك قوى متعددة في المجتمع المدني تلعب دورا مهما في الضغوطات الهيكلية للنظام، وتسبب شرخا في أعمدته العمودية والأفقية. كل تلك السيناريوهات المرئية والمحتملة والبعيدة، تحددها عملية تصاعد المزاج العام والاستعداد والتضحية وتوازن القوى وقدرة المعارضة الدائمة على دفع وفرز كاريزمات قيادية ويومية ومناطقية ـ حتى وان اتسعت حجم عملية الاعتقالات ـ فتدخل النظام في حالة إرباك سياسي واضطراب امني تفقده السيطرة على مفاتيح الاستقرار. بدون تملك زمام تلك المفاتيح والسيناريوهات وتغير الموازين لصالح المعارضة، ستعود حركة المعارضة أدراجها للهدوء التدريجي والاستسلام للأمر الواقع، ومن ثمة إدخال جمهورها في حالة إحباط عميق وانتكاسات سياسية كبرى لحركة المعارضة. لهذا من الضروري أن تدرك المعارضة جيدا فن التقاط الأنفاس دون الركون للخمول، وبتنويع مصادر الاحتجاج في الأشكال والأمكنة والتنظيم اللامركزي في بلد شاسع، وبالاستعداد والتوقع دوما لضربات موجعة، شريطة أن لا تؤثر عليها عضويا ومعنويا. ومن اجل أن تنتصر أي معارضة منظمة وموحدة، عليها في هذه اللحظة التاريخية أن تؤسس لمشروع سياسي واسع يضع كل الخلافات الجانبية خلفه، وينظر لأهدافه العليا والمصيرية بمسؤولية، فلا يوجد عدو حقيقي لأي حركة معارضة مثل تلك التي تنشغل بخلافات ثانوية وهامشية تضعفها من نصف الطريق ومن الداخل. لست من يقدمون نصائح لتاريخ كتاريخ إيران بعظمة رجالاته، ولكنني أحاول قراءة السيناريوهات الممكنة والمحتملة في مجرى تاريخ غامض ومضطرب، وكلما اهتز الزلزال في إيران وأرضها تساقطت أحجار حارقة هنا وهناك فوق منطقتنا.
 
صحيفة الايام
5 يوليو 2009