المنشور

الجنون السياسي

عبرتْ ثنائية التطور الاقتصادي بين الغرب والشرق عن تباين مستويات التطور الكبيرة بين الجانبين، كما أن هذا التباين كان يجري في ظروف الصراع بين التكوينين البشريين المتضادين.
فكان الشرقُ يرفض طريق الغرب بشكل عام بين أغلبية المنتجين في الثقافة والسياسة والإنتاج المادي كذلك، مرتكزين على عالم خرافي يعيشُ أزمنة غارقة في التخلف والضعف الاجتماعي والدونية، وخلقتْ هذه الأجواء الملتبسة والمرضية والصراعية الوطنية ضد الغرب المحتل، انفصاماً بين الشرقيين عامة، بين الاعجاب بالغرب والعداء له، بين تقليده ومهاجمته، بين التبعية له وتمزيقه، بين الاعتداد بالماضي والخذلان في الحاضر.
وكان هذا جزءًا من التباين الموضوعي الكبير بين أبنية الاقتصاد والحكم والحياة الاجتماعية في الشرق عن نظيرتها في الغرب، وقد ولدت المراحل المتوسطة والأخيرة من العلاقة الصراعية – التعاونية أشكالاً من الأفكار السياسية الخطرة أقرب للجنون الذي يجد طريقه للتنفيذ أسرع وأقوى من الأفكار العقلانية والديمقراطية.
لقد راحت قيادات وقوى سياسية جماهيرية كثيرة كخسائر بشرية مريرة نتيجة لسرعة تطبيق هذه “الموديلات” الشرقية، من دون أن تصل دولُ الشرق المتعددة إلى وضع حد لظاهرة هائلة مازالت تشتغل بكل طاقاتها في إنتاج الخسائر.
تركيبات المجتمع الشرقية شديدة التخلف ولاتزال الأرياف تنزف، والمدن الباهرة تتحول هي الأخرى لأرياف داخل حاراتها الخلفية ومقابرها.
سيطر على تفكير كثير من المثقفين في الشرق الرفض القاطع للسير في طريق الغرب، بمعنى السير في دروبه الديمقراطية والعقلانية والعلمانية، وهي خطوط كبيرة توحد ملايين البشر في بُنى اجتماعية متضادة لكن مقبولة لهم، وتجعلهم رغم صراعاتهم الضارية الرهيبة أحياناً، يعودون لتلك المشتركات الفكرية السياسية ويطورونها ويطورون عيشهم المشترك المختلف كذلك.
بطبيعة الحال لهذه المشتركات مرتكزات اقتصادية واجتماعية وثقافية تشكلت في قرون، ولا يمكن نقلها ببساطة.
كانت الاختيارات السياسية لقوى الشرق أقرب للجنون، وحين نتذكر التيارات الكبيرة نجد بداياتها أشبه بأعاصير الطبيعة، ملايين القتلى لتنفيذ شعارات سياسية معينة تم اكتشاف مضمونها الخاطئ بعد عشرات السنين وبعد خسائر الأرواح والصراعات الهائلة.
كان أغلب الشرقيين السياسيين يعتقدون أنهم يتوجهون لطرائق معينة مغايرة للغرب، فهم يعودون لأصولهم وحقائقهم المدفونة في أتربة التراث، أو هم يقفزون قفزات هائلة يعتقدون أنها تنقلهم لما وراء تطور الغرب وتتجاوزه، وهم يستعيرون خرافاتهم وأساطيرهم الفكرية ذات الحضور الكثيف في حياتهم اليومية، والممزوجة بهذا المستوى أو ذاك من “العلوم” التي يقطعونها ويمزقونها ويدخلونها في تلك العلب الضيقة، وهم معجبون بهذه العجائن أشد العجب، وفي سبيل ذلك يبنون السجون الهائلة لاستيعاب المعارضين، أو يرحلونهم للمقابر بسرعة شديدة، ويشكلون القوى العسكرية والدعائية والتنظيمية التي تكرسُ تلك المفاهيم العجائبية التحويلية للحياة المفتوحة على المآسي والخسائر وبعض التطورات الجيدة والفاسدة.
يسيطر التعصبُ للماضي، ولطرائق حياة الأجداد التي تؤخذ بسيرورتها العفوية وليس بدرسها الموضوعي، أو هم فقط يدافعون عنها كما تجري وكما تلتصق بها منجزاتٌ غربية، يتسمرون في الذهول منها، كأنها زجاجات علاءالدين، ويعتبرونها دائماً منزلة بوحي أو بإلهام ما، أو هم يدرسونها بجزئياتها، مثلما يفعل المصلحون في الورش المختلفة.
فيتحد الثوارُ الشيوعيون والقوميون وشيوخ الدين في مجرى التاريخ، فرغم اختلافهم الكبير في الحكي السياسي، يجدون أنفسهم في طريق واحد متجه رغماً عنهم في المشي وراء الغرب بعد هذا الزمن أو ذاك، بعد هذه التغييرات أو تلك.
تمت إضاعة الأرواح والموارد ونشأت حروب، ثم وجدوا أنهم متفقون، وما ضاع ضاع ولا يمكن استرداده.
كانت اختلافاتهم أجزاء من تخلفهم عن بنية الغرب، وكلما طوروا مجتمعاتهم ونقلوا الصناعات والعلوم واستوعبوها قاربوا الغرب العدو، وسقط الكثيرُ من نقاط الخلاف التي حشدوا لها الجيوش وخاضوا الحروب.
وكلما فعلوا ذلك تلاشى بعض سحب التخلف عن عيونهم ورأوا أنهم كانوا مخطئين، لكن اقساماً جديدة من بشر مجتمعاتهم تنتقل إلى الخطوط التعصبية الحماسية نفسها لمقاتلة الغرب.
إن تفكك الدول الاستبدادية الشرقية المسيطرة على الإنتاج وعلى الوعي الديني وعلى التقاليد لا يتم دفعة واحدة كذلك فإن ظهور قوى اقتصادية مستقلة وقوى شعبية ليبرالية وعقلانية لا يُنتج بشكل آلي، فلابد لها هي الأخرى من تصادمات وتجارب حتى تتكشف سببيات التطور، وتنزع اللافتات الايديولوجية المضللة، لكن قوى الجنون السياسي موجودة بل تزداد في التحولات الخطيرة وفقدان البوصلات الفكرية والسياسية، وتحدث عمليات الرجوع الأخطر إلى الماضي، وتنتشر القوى المتطرفة وتظهر الحركات النازية حتى في البلدان الاشتراكية السابقة، نظراً لهذه القلاقل والتحولات التي تعانيها الجماهير الشعبية بدرجة خاصة، من دمائها ومعاشها، فتؤيد أقصى الحلول السريعة.
كما أنه لا توجد تراكمات كبيرة عقلانية في مؤسسات الدول الحاكمة التي تربت فيها فئران المطابخ السمينة، وحين تأتي التطورات على امتيازاتها تقوم بكل شيء من أجل وقف العمليات الديمقراطية، وهي قد أعدت قوى عسكرية كثيفة لمثل هذه الأوقات.
إن القوى المؤدلجة الشعبية نفسها تعيد الاضطرابات والتحولات لعوامل خيالية، وبإسقاطات نظرية، بالقول انها خروج عن الدين والطريق المستقيم أو انها ابتعاد عن الاشتراكية أو إنها عمالة للغرب الاستعماري وغيرها من التبريرات، من دون أن تدرس الاقتصاد ومشكلاته الكبرى وآثارها في السكان والتيارات السياسية، وكيف أن ما كان صالحاً لزمن لم يعد صالحاً بل يسبب الأزمات.
مثل الدول الخليجية التي لاتزال في برامج الاستيراد المكثف للعمالة الأجنبية من دون أن ترى كثرة المواليد في بلدانها وحشود النساء العاطلات وحشود الرجال العاطلين وذوي الأجور والرواتب المنخفضة، فلا توجد لديها خطط اقتصادية مرافقة لهذه التغيرات التي تجري بسرعة وربما تتحول إلى تغير نوعي خطير.

صحيفة اخبار الخليج
1 يوليو 2009