الصراعات المحتدمة في العالم الثالث تعبر عن أزمة عامة كبيرة في هذه الدول، فقد عجزت هذه الدول عن خلق تنمية مطردة، وإحداث تطور متناسق بين المدن والأرياف، واحتكرتْ الدولُ ثمارَ التنمية ووجهتها بحسب مشروعاتها السياسية وبحسب القوى المتنفذة، وهمشت القطاعات الخاصة.
ثم جاءت الانقلاباتُ والثوراتُ بشكلٍ دراماتيكي عنيف، وأوجدت أحوالاً سياسية غرائبية، فتحدثُ الثوراتُ على القطاع العام بشكلٍ انقلابي ويظهر مؤسسو القطاع الخاص من بين خرائب المصانع والأزمات الاقتصادية كما حدث في مصر والاتحاد السوفيتي.
وكلما كانت المبالغة في نشر القطاعات (العامة) وسحق القطاعات الخاصة في العقود الماضية كلما كان التفجر أكثر خطورة على المؤسسات السياسية وحياة السكان.
وكلما كان التطور السابق فيه مرونة وتعاون بين القطاعات العامة والخاصة كان التحول الجديد أكثر سلاسة.
وإذا كانت القطاعات (العامة) قد توجهت أكثر إلى جوانب اقتصادية في غير منفعة الناس، كالبرامج العسكرية ومساعدات الأنظمة الدكتاتورية المماثلة والبذخ على المسئولين كلما كان الانفجار الاجتماعي أكثر حدة وخطورة، وهو يأخذ الأشكال والتقاليد ومستوى الوعي في كل بلد.
كذلك فإذا كان التمركز في المدن الكبيرة ويتم استبعاد الأرياف والبراري، ويتم التركيز على منافع المذهب أو الوعي السياسي المسيطر أو الطائفة تأخذ الأشكال المناهضة الاحتجاجية أو الإرهابية أو العنيفة بعداً جنونياً.
ولهذا لا غرابة أن يكون شمال طهران هو قائد الانتفاضة في إيران، لأن القوى الحديثة والفئات الوسطى هي الأكثر تضرراً بهيمنة القطاع العام الحكومي والعسكري خاصة، والذي يلقي الفوائض الاقتصادية على الجيش والقوى المؤيدة له والمنفذة لخططه في الخارج، والذي يؤدي إلى إفقار السوق الوطنية.
كما أنه يحتفظ بقوة عامية عسكرية محدودة الوعي ومتعصبة ويغذيها بالحقد على الحداثة والغرب في عمليات تمويه.
وضخامة القوى العامية المؤيدة للسلطة الإيرانية هو بسبب ضخامة أجهزة الدولة والملكيات العامة وما توفره من معاش للملايين من الإيرانيين، في حين أن الفئات الوسطى المدنية لا تقدم الشيء الكثير لهذه الجماهير، فليس لديها مصانع كبرى أو وزارات أو جيوش.
يجب عدم الحكم النظري أو الأخلاقي المجردين، فليس التاريخ يجري بأحلام المثقفين فقط، والفرق كبير بين أيام الشاه وأيام النظام الديني الراهن، فقد ضخم هذا النظام من المؤسسات العامة، ولها جانبٌ مفيد ولاشك رغم الفساد، ولكن الملكيات الخاصة قد نمت كثيراً كذلك، وهي ذات تراث كبير، وتمازجت مع أفكار الحرية الغربية.
أما أن يكون انتصارها ممكناً في هذه المعركة فهو أمرٌ مستبعد، بسبب ضخامة الأجهزة العامة وما تجذبهُ من جماهير.
كذلك فإن نظاماً رأسمالياً خاصاً ذا سوق فوضوية تصعد الأغنياء الكبار وتعسر حياة الفقراء، أمرٌ يخيفُ الناس، كذلك فإنهم مستلبو الوعي في مثل هذه الصراعات الغامضة عليهم. ولم يهتم الحداثيون بالثقافة الدينية لهذه الجماهير، واكتفوا بثقافة النخب في بعض المدن الكبيرة، وهي ثقافة لا تصل إلى كل الشعب.
ولكن إذا وجدوا من الليبرالية سنداً في المعاش، وقوة اقتصادية يمكن أن تـُحدث استقراراً لحياتهم، فمن الممكن أن تنزل الجماهير الكبيرة، لكن الليبرالية سواء كانت من الخلايا الجنينية في داخل النظام، أو كانت قوى مستقلة، فإنها عاجزة عن فهم العملية الصراعية، وعن تقديم وظائف وأجور أفضل للملايين.
لهذا فإن الليبراليين من الضروري أن يهتموا بالتصنيع وبإصلاح الأرياف وبتقدمها الاقتصادي وبتوزيع الأراضي والأدوات الحرفية على الجمهور الريفي خاصة.
وعموماً فإن النظام الديني – المالي – العسكري سوف يصلُ إلى مآزق أكبر مع استمراره في النفقات العسكرية الهائلة والتي تشكل عادة رشاوى كبيرة وحياة باذخة للضباط والمسئولين الكبار.
عموماً فإن الجماهير لا تريد وعياً وشعارات نخبوية فقط وهي قد أبلت بلاءً حسناً في نضالها ضد التكلس السياسي في المؤسسات من أجل تقدم أوسع لإيران.
إذن يجب عدم النظر للصراعات السياسية في الشرق بمعزل عن الصراع الرئيسي بين الملكيات العامة البيروقراطية والملكليات الخاصة لوسائل الإنتاج، وكونها صراعاً رئيسياً تعبر عن هذه اللحظة المفصلية لعجز القطاعات الحكومية عن تقديم الحريات الاقتصادية والسياسية، واستمرار فسادها ولعدم تغيير الخطط الاقتصادية، بما يضمن نمواً أكبر للقطاعات المدنية.
إن القطاع الخاص لا يحصل على مداخيل كبيرة لنموه، وتوجه الفئات الوسطى المدنية لتحييد الثقافة الدينية المحافظة القشورية السائدة، هو جزءٌ من سلبيتها الصناعية ومن قصور علمانيتها وديمقراطيتها ولشكلية قراءتها للإرث الإسلامي.
إن تعملق القطاعات العامة البيروقراطية قد وصل في الشرق إلى نهايته، لم يعد أي تطور فيه مقبولاً، وخاصة إنفاقه العسكري، وهو بيت قصيد الخراب، وأي تراجع كبير في الإنفاق العسكري سيكون له مردود إيجابي في جوانب الحياة الأخرى.
ولهذا فإن توجهات الغرب السلمية وتفكيك القواعد العسكرية له، وإزالة الرعونة الإسرائيلية من المنطقة، وقيام علاقات طبيعية بين الدول كافة، سوف يقوي التوجهات الديمقراطية في الدول الإسلامية، ويجعل القطاعات الخاصة قادرة على الامتداد في مجالات الإنتاج، وإلى تحول القطاعات الحكومية نحو خدمة اقتصاد الإنتاج كذلك ومعاش الناس.
صحيفة اخبار الخليج
28 يونيو 2009