سألني أحد الذين أبهرتهم وأغوتهم عملية إدارة الدولة في إيران بطريقة تداول السلطة ومظاهر تجليها الديمقراطية التي يحرص النظام السياسي ومؤسساته الحاكمة على إظهارها بصورة احتفالية صاخبة كل أربع سنوات إبان حملات انتخاب أو إعادة انتخاب الرئيس.. سألني: هل من مقارنة بين هذا التمثل التداولي المعقول (بمقاييس ‘العالم الثالث’) للسلطة وبين الانتخابات الشكلية لرأس السلطة في عالمنا العربي.
وخلته لن يسعد أو لن يشفى برأيي جواباً على سؤاله الذي بدا لي معقولاً ومشروعاً. إلا أنه خيب ظني باقتناعه الواضح بما دفعت به من رأي. فقد قلت له أن لا فرق بين الحالتين سوى في الشكل وتماثلهما في الجوهر. فإذا كان ‘المونولوج’ الانتخابي في الحالة العربية فردياً (Singular) فإنه في الحالة الإيرانية جمعياً (Plural) عصبوياً ينافس في إطاره رجال النظام، أو بالأحرى كبار علية القوم من رجال النظام، بعضهم بعضاً، ولا يسمح لأي مخلوق كان من خارج هذه العصبة، بالتجرؤ على تدوين اسمه في سجل المرشحين لانتخاب الرئيس، حيث سيكون في انتظاره ‘الفلتر’ المركزي الذي لا يمكن اختراقه، وهو مجلس تشخيص مصلحة النظام الذي لا يجيز ولا يمرر سوى رجال النظام عداً وحصراً.
هذا هو الواقع، فالمرشحون المنافسون للرئيس أحمدي نجاد على منصب الرئاسة هم رجال النظام نفسه بامتياز، يجمعهم بالرئيس نجاد وبالأب الروحي للنظام وسياساتهما، أكثر بكثير مما يفرقهم، ذلك لأنهم جميعاً ينهلون من منبع أيديولوجي واحد، برسم المناظرات التلفزيونية التي أجريت للمرشحين والتي كشفت أنهم إنما يختلفون سياسياً وحسب، أي في كيفية استخدام وتوظيف السياسة كأداة في العلاقات الدولية لإيران وفي علاقات القوى الداخلية، بما يؤمن أفضل الأوضاع لبقاء واستدامة النظام الإيراني الحاكم.
ثم إن رجال الثورة وقد تحولوا إلى رجال دولة، لابد وأن يكونوا قد أضحوا، في ضوء التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها إيران منذ قيام الثورة قبل حوالي ثلاثين عاماً، هم أنفسهم مراكز قوى سياسية واقتصادية بحكم طبيعة العلاقة بين السلطة المطلقة (لرجال الدين ومؤسساتهم الاحتكارية الحصينة) وبين المصالح الاقتصادية المتخلقة في دورة إعادة الإنتاج اليومية.
وفي ضوء الواقع المستجد والمتحول، كماً ونوعاً، تغدو السياسة وتغاير الرؤى والتطبيقات المتصلة بها، غطاءً تغلف بها حقيقة افتراق مصالح أقطاب النظام ولوبياته المتوزعة على امتداد رقعة مؤسساته الحاكمة والمتنازعة على امتيازاتها.
ونحسب أن التحولات الاقتصادية، والتحولات الاجتماعية التي استتبعتها ترتيباً، والتي لم تحل دونها نزعة الانعزال والانكفاء على الذات الخصوصية منعاً لتسربات ‘الغزو’ الثقافي الأجنبي (الغربي تخصيصاً)، ولا السياسات الغربية المبرمجة والمكرسة لإحكام العزلة الدولية على طهران للضغط عليها ودفعها نحو تخفيف قبضتها الأيديولوجية وهيمنتها على المجتمع الإيراني، لم تحل دون اتصال وتواصل المجتمع الإيراني لاسيما المجتمع المدني مع النظام الحداثي الدولي وأدواته المتدفقة بغزارة عبر الحدود الجغرافية العالمية قاطبة، وهي لم تحل بالتالي دون وصول الهاتف النقال والإنترنت والصحون اللاقطة لقنوات البث التلفزيوني الفضائي، وهي أبرز وأخطر ما أفرزته الثورة العلمية والتكنولوجية في العقدين الأخيرين، إلى الجمهور الإيراني لاسيما الشباب الإيراني المتعطش للنهل من معين هذه المكتسبات البشرية العظيمة. خصوصاً وأن الشعب الإيراني عُرف عبر التاريخ بحيويته وانفتاحه على تيارات الفكر والثقافة العالمية المعاصرة.
وإسقاطاً لشمولية النظام الإيراني المغلفة بتعددية مؤسسات النظام المشار إليها آنفاً على مجريات الأحداث الجارية الآن في إيران على خلفية الأزمة السياسية التي فجرها إعلان نتائج انتخابات الرئاسة الإيرانية التي جرت يوم الجمعة الثاني عشر من يونيه الجاري بفوز الرئيس الحالي أحمدي نجاد بثلثي أصوات المقترعين (حوالي 63٪)، وهو ما احتج عليه المرشح حسين موسوي الذي قال بأنه تلقى مكالمة من وزارة الداخلية تفيد بفوزه بثلثي أصوات المقترعين يمكننا إيراد الملاحظات التالية:
(1) إن الحيز الضيق جداً الذي أنشئ كساحة تتحرك داخل إطارها تلك التعددية النخبوية المحسوبة بدقة، لم يعد يتسع لدفق حركتها الداخلية الناتج عن تمايز مصالح لوبيات ومراكز قوى أقطاب النظام، فكان لابد وأن يخرج المتبارون في إطار ‘اللعبة التعددية’ على أصول اللعبة بمحاولة تجاوز وكسر محابسها.
(2) لقد بدأ الزخم الأيديولوجي الذي يمثل، مجازاً، إكسير الحياة للنظام، يتراجع ويتبدد رويداً رويداً نتيجة لطغيان اتجاهات التمدين الناتجة عن التعرض لموجات تأثيرات العولمة التي لا راد لها، على حساب اتجاهات الترييف التي اكتسحت المدن الإيرانية إبان اندلاع الثورة، فكان أن طبع ترييف المدن نمط الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الإيرانية على مدى سني الثورة، قبل أن يسقط النظام في السنوات القليلة الماضية ‘في حبائل’ تيارات التحديث والتمدين الموضوعية، أخذاً بعين الاعتبار هاهنا المتغير (Variable) الهام في معادلة التحديث وهو الشباب الذي يشكل زهاء 60٪ من الشعب الإيراني والذي ولد في أعقاب الثورة.
(3) بهذا المعنى فإن التغيير قد حدث في البناء التحتي على نحو كاف لحد انتظاره تغييراً موازياً في البناء الفوقي، وهذا استحقاق حتمي الوقوع، خصوصاً عندما لا يستطيع ‘الجديد’ العيش على النمط القديم. والوقت هو الفاصل هنا، فقد يتأخر الاستحقاق قليلاً بسبب ممانعة القديم السماح له بالمرور، ولكنه آت لا ريب فيه.
صحيفة الوطن
27 يونيو 2009