المنشور

مصائر الثورة الإيرانية ( 2- 2)

كانت فكرة الامام الخميني التي انتجها في النجف بعد إبعاده عن موطنه عن ولاية الفقيه، هي بخلاف تطور المذاهب الإسلامية، التي كانت كلها حذرة جدا في التعامل مع السلطات، فكيف أن تكون هي السلطات؟
كانت الفكرة من الناحية الجوهرية هي استمرار لحكم الأقليات الغنية السائد في الحياة السياسية والاجتماعية الشرقية، لكنها تضع مقاليد السلطة في يد شيوخ الدين بصفة خاصة.
وكما رأينا فإن الأغلبية الساحقة من شيوخ الدين كانت قد التصقتْ بالحكوماتِ الاستغلالية، وشكلنتْ الشريعة، خاصة من الناحية السياسية، وجمدتْ الأحكام، وركزت فيما هو تحريمي وقمعي، وفيما هو سحري وخرافي، وفي تجميد تطور البناء الاجتماعي خاصة في مسألة عدم تحرير الفلاحين، وبقاء السيطرة الذكورية على النساء، وسيطرة الحكام على المحكومين، وسيطرة الدين كما يفهمه المحافظون على الوعي، وسيطرة القلة على مال الأغلبية.
فجاء حكمُ ولاية الفقيه ليرث كل هذا التراث المحافظ بسبب الأدوات السياسية التي وضعها وليس من حيث النية والهدف، فأعطى الولي الفقيهَ سيطرة مطلقة على السلطة، مثلما أعطى النصوصَ الدينية المأخوذة بتعسف تفسيري عتيق، لمصلحة القوى الاستغلالية المسيطرة على المال العام وقد ظنها بأنها الحارسة الأمينة عليه.
ان النصوصَ الدينية تمتْ أدلجتها خلال قرون طويلة لمصلحة تلك الأقليات الغنية، وبسسبب خضوعها للطرائق الشمولية التحكمية بالمسلمين، فتغدو ولاية الفقيه هنا دكتاتورية على مستوياتٍ متعددة: مستوى سياسي، ومستوى اقتصادي، ومستوى فقهي.
المستويان السياسي والاقتصادي مفهومان حيث تقوم الدولة باحتكار السلطة ولكن في المستوى الاقتصادي لا تستطيع ذلك كليا، فهناك قطاع خاص قديم، لكن دولة ولاية الفقيه تضعُ يدَها على أغلبية الثروة الوطنية، خاصة مؤسسات النفط والغاز والصناعات المختلفة. وهذا مشابه لدكتاتورية القطاعات العامة المسماة “اشتراكية”. وثمة هدف غائر هنا في ولاية الفقيه يتمثلُ في ضرورةِ إحداث ثورة صناعية كبيرة، ويترابط ذلك بعسكرة الحياة، وتصاعد بناء الجيش وهيمنة الشرطة على حياة المواطنين. ويُضاف إلى ذلك هنا مستوى القراءة المحافظة للإسلام عند هذه المؤسسات الذكورية الاستغلالية المتعالية.
أما على مستوى الفقه فإن الدولة الشمولية هنا لا تستطيع أن تسيطر، ففي عقر دارها توجد الأصالة الإسلامية المعارضة، حيث قامت المذاهبُ الإسلامية على التعددية، وتباين الاجتهادات والتفاسير وكثرة المدارس والمجتهدين حتى في القراءات المحافظة المسيطرة.
لقد قامت الأنظمة الماضية الدينية الإسلامية باختلافها على فصل الحكم السياسي عن الشرع، كما وضح سابقاً من نأي مؤسسي المذاهب الإسلامية عن الحكومات، ولكن ولاية الفقيه كما نـُظّر لها من قبل الإمام الخميني، تقوي في رأيه من جهاتٍ سياسية واجتماعية عدة قواعدَ العدالة، فالولي الفقيه مُنتخبٌ عموماً، كما أن الملكية الاقتصادية الانتاجية الكبرى هي بيد الشعب، كذلك توجد مؤسسات اجتماعية عديدة لخدمة الفقراء.
لكن يخرق النقاط السابق ذكرها الواقعُ الحقيقي، فالولي الفقيه يتجه إلى احتكار السلطة وتهميش رئيس الجمهورية ذي الصلاحيات المحدودة، وكذلك يقوم بتهميش البرلمان، الذي هو برلمان مراقبة بدرجة أساسية لا برلمان سلطة تنبثقُ منه المؤسسات، فهذا ليس برلماناً ولكنه لجنة مراقبة عمومية كما يحدث في بقية الدول الإسلامية خاصة.
ومع التطور السياسي يغدو الولي الفقيه متفردا، وإذا أضفنا إلى ذلك المستوى الفكري للمرشد، وكونه غير ذي دراية واسعة بالشرع والمجتمع، وتربطه علاقات خاصة معينة غير عادلة تنعكس على أحكامه، فإن المنصب يغدو ملتبساً وغير مختلف عن الرئيس الأوحد القاهر.
كذلك فإن الملكيات العامة تتم السيطرة عليها من قبل الإدارات البيروقراطية الفاسدة وبهذا فإن “حلقات” الشمولية تتحكم في كل شيء.
عموماً هذه هي مسيرة الرأسماليات الحكومية الشرقية وقد لبستْ هنا لباسَ المذهبية اليمينية المحافظة، ذات الجذور الريفية، فغدت مُلجمة لتطور المدن، وللثقافة الحديثة، وللحريات، ومهددة لتطور المذهب وانفتاحه وتقدم أحكامه في هذا العصر حيث الحضور الشديد للتغريب.
ويعطينا نموذج الانتفاضة الإيرانية الآن محاولة أخرى لتكسير القيود وللخلق الشعبي الحر، وللفيض الروحي الاستشهادي، والسير خطوة أخرى نحو الديمقراطية الحقيقية.
واعتماد ولاية الفقيه على الرجل الفاضل هو اعتماد واهٍ، فحتى حكومات الخلفاء الراشدين لم تخلُ من انحياز أحياناً إلى العائلات وإلى مصالحها، رغم الإيثار الكبير في أغلب فتراتها، مما تسبب في مشكلات خطرة استمرت أجيالا، رغم عدم وجود جيوش جرارة لدى الخليفة ولا لأجهزة التسلط والتنصت وكونه مواطناً بين المواطنين.
فكيف يستطيع الولي الفقيه وهو محاط بكل هذه الأجهزة وبالفردية في الحكم وضعف الأجهزة المنتخبة أن يكون عادلاً؟
في النهاية ستتحول ولاية الفقيه إلى حكم وراثي كما جرى الأمر في الجمهوريات العربية الإسلامية.
إذا رأينا تاريخ إيران الطويل حيث استمر بعض الحقب النضالية سواء كانت مغامرة أم فوضوية أم صوفية مئات السنين، فيجب ألا ننظر إلى زمن ولاية الفقيه بأنه طويل، فهو قصير في عمر الزمن، وصارت فيه منجزات كبيرة وأخطاء جسيمة كذلك، والطريق هو توسيع المؤسسات المنتخبة وصلاحياتها، وتوجيه الموارد نحو الصالح العام والمشروعات التنموية السلمية كما تطرح قوى المعارضة، ولا بد لإيران من مغادرة طرائق الدكتاتوريات العسكرية فهي تعود بأوخم العواقب على شعبها وعلى تطورها.

صحيفة اخبار الخليج
25 يونيو 2009