لم يجدْ الزمانُ بمثلهِ، وقد كـُثرتْ الشعوبُ الخرافُ، وليس لهذا أسبابٌ غيبية مفارقة للعيش ولكن لأن الغيبَ هنا اتحد بالثورات، وجالَ في الأزقةِ بين الفقراء، ولبسَ الأسمالَ والجوع والفقرَ فصار ناراً مرة، وصوفيين شجعاناً مرة، وتجاراً وعمالاً حداثيين في بداية الزمان الحديث، موعد المساواة والمواطنة والحرية.
وهو موعد الحزبِ، حزب المهدي قائد الجمهور، العمالي، صانع الاشتراكية في آخر الزمان.
ولأن العربَ قدموا له العدالة والقرآن مرة حين كانوا ثوريين، ثم فرضوا عليه بعد ذلك الاستبدادَ والجزية، بعد أن ملكَ الاستغلاليون الرقابَ، فلم يُفرقْ الفرسُ بين فاتح صديق، ومستبد عريق، فالظلمُ طال، والجهل عم.
فكان عليه خلال قرون طويلة أن يتخلصَ من النير العربي الملوكي الجائر، وقدم له قادة من العرب أنفسهم المذاهب الإمامية المقاتلة، فخليفة بغداد ليس هو الإمام، والإمامُ العادل مطاردٌ في الجبال، وفي الأغلال، له في جبال رضوى بشارة وإشارة، ومهما قتل مراراً فهو هناك في الجبال يشرب ويأكل.
ظهرتْ المذاهبُ الإمامية خلال قرون كثيرة، طويلة، وفي كل سنة أحداث وآلام، وقد نهض أبومسلم الخراساني من جوف الدعوة العباسية ليرفع الأعلامَ السوداء ويثأر من عرب الاستغلال، لكن ثورته كانت فردية، وصار سفاحاً في خدمة آل عباس، حتى نهض الزيديون بالثورة وتابعوا طريق الدماء خدمة للمستضعفين والفقراء.
لكنها كانت ثورات بأسلوب واحد دموي، فكانت مناجل الحصاد تزيلُ الرؤوسَ التي تضجُ بالأفكارِ والأحلام، وتبقى الأرضُ عطشى، والشعبُ لا قواد له.
الثورات الدموية استنزافٌ للقدرات، والزهرات التي تنمو خلال سنين طويلة تـُقطع خلال أيام، بعدها يحلُ زمنُ الصمت والهوان، وتغدو الحياة عزيزة حتى للعبيد والخدم.
ولكنه الشعب الذي يصعد سلماً صعباً، كلما كثرت تضحياته سما، وتطلع للحرية ولا يتوقف عن تقديم التضحيات!
جاء الإسماعيليون بعد قرون مثل سابقيهم الزيديين أصحاب ثورة لا تعرف القعود، ولا الركود، يضجون بالحيوية، ويحملون الخناجرَ لبقر بطون المستبدين، ويشعلون النيران في رؤوس الجبال، ويهجمون على المدن، ويذبحون، ويختفون!
أقام بعضُهم جناناً، يعقبها جنون، ويملأون رؤوس الحالمين بالدخان المُغيّبِ للعقول، ثم يسلمونهم خناجر ليقتلوا الحكام، ولكن القتل والجرائم لا تصنع التاريخ، ولا يصنعه الوعي المُخدّر.
حدث فراغ كبيرٌ في إيران راح الإثناعشريون يملأونهُ بهدوءٍ تاركين المغامرات العسكرية، والمذابح، والثورات الخائبة.
كان نضالهم يجمعُ بين السرية والعلنية، بين النقد والصمت، بين البحث والتحليق في الفضاء الغيبي، لقد تعلموا من بحر المذابح السابق.
في زمن الإثناعشرية الصوفية تألقتْ إيران كما لم تتألق من قبل، كثـُر الشعراء الكبار ونـُظمتْ الملاحمُ وازدهرتْ اللغة الفارسية لكنها لم تنفصل عن شقيقتها العربية وإن كرهتها، وغدا العشق هو سيد الثقافة، وتم استبدال الخناجر بالدفاتر، وبالعلوم، وفي هذه الفترة صارت إيران مستقلة.
كان المغول قد احتلوها واضطهدوها، فقام الصوفيون الدراويش بالثورة، فهؤلاء الذين ما فتئوا يهذون بالعشق الإلهي تحولوا إلى فرسان مقاتلين وسحقوا عصابات المغول وأزالوها من الشرق!
استولى الدراويش السلاطين على الحكم والمذهب، وجيروا رجالَ الدين من أجلِ حكمهم، وهي فترة خطيرة تعبت العقول فيها من البحث، واجترت أقوال السلف، وانتشرت الخرافات، وصارت الصوفية دروشة، وصار السلاطين يخوفون الشعب من زحف (الكفار) الصليبيين وخاصة أن هؤلاء ظهروا بشكل البرتغاليين حارقي المدن ومدمري الحضارة.
ثم بشكل الخبثاء الانجليز الذين يتغلغلون مثل النمل، بنعومة وهدوء ثم يستولون على البلدان والثروات.
كان نمو الإثناعشرية خلال هذه القرون التي استقلت فيها إيران (يتطور) مثلما تطورت المذاهب الإسلامية الأخرى، مُفارِقاً لوصايا القرآن بأن تكون الأغلبية الشعبية العاملة هي الحاكمة، فقد سقطتْ هذه السلطة بعد حكم الخلفاء الراشدين، ولم تـُعدْ مرة أخرى، وهكذا تمتْ أدلجة الإسلام حسب ما تراه القوى الاستغلالية العليا، من حكوماتٍ وإقطاعيين وملاك كبار، وغدا رجال الدين جزءاً من هذه القوى، يوجهون الأمور نحو العبادات، كل بمذهبه، وأما النظام السياسي فهو النظام الاستبدادي الذي ورثوه عن الرومان والأكاسرة بعد أن ورثوا ثرواتهم وأضافوا إليها استغلال العامة المسلمين.
وتوسعت السلطة الفارسية وهي تواجه الزحف الغربي محولة القوميات الأخرى التابعة لها إلى فرس بالقوة، وكان هذا بداية لمشروع قومي كامن هيمنت فيه التقاليد المحافظة.
ومع العصر الحديث ومقاومة الاستعمار والتدخلات الأجنبية في شؤون فارس التي تحولت إلى دولة إيران كمصطلح جديد يشير إلى دولة متعددة القوميات، توجهت النخب العسكرية والسياسية إلى التأثر بالتجربة الغربية في الحكم، لكن كان ذلك غير ممكن من دولة إقطاعية محافظة تريد أن تحتذي نظاماً سياسياً ديمقراطياً يعبر عن رأسمالية حداثية.
كان التجار ورجال الدين الذين قاموا بالثورة المشروطية سنة 1902 يسعون لنظام حديث علماني، لكن العسكر المعبرين عن القوى المحافظة كانوا أكثر قوة، فظهرت عائلة بهلوي ورسخت النظام الأتوقراطي، أي نظام القلة الغنية المسيطرة.
وكان هذا مسار الأغلبية الكاسحة من أنظمة الشرق. ولهذا فإن (الجمهوريات) و(الملكيات) هي طبعاتٌ مختلفة من النظام نفسه، وسواء كان اشتراكياً أم رأسمالياً، لأنه في الحراك الاجتماعي الطويل تتكشف المضامين المتوارية فيه.
ولهذا فإن الديمقراطية تعني في هذه الدول هوامش صغيرة تـُعطى للشعوب في حين تكون الخيرات والحكومات لتلك النخب الصغيرة.
ولم يشذ تفكير الإمام الخميني عن هذه الرؤى الاجتماعية السائدة، وكانت فكرة ولاية الفقيه فكرة جديدة غير موجودة لا في المذاهب الإثناعشرية ولا في المذاهب السنية.
أي أن الفقه الإسلامي عامة رفض أن يقوم الفقهاء ورجال الدين بمهام الحكم المباشر، نظراً للتاريخ الذي جرى بعد إسقاط الحكومة الأخيرة للخلفاء الراشدين، وسيطرة الملوك – الخلفاء على السلطات، فنأى الفقهاءُ عن الحكم والحكومات، واعتبروا التعامل معها أشبه بالنقيصة لرجل الدين، حتى أحكامه تصبح محل نظر وشك، ولكن هؤلاء الفقهاء الزهاد لم يصيروا هم الأغلبية لأن آخرين كثيرين بعدهم سارعوا للارتباط بالدول وحوروا وغيروا من أجل أن يعيشوا برفاهية.
صحيفة اخبار الخليج
24 يونيو 2009