يقول هيغل في مكان ما: “عادة ما ينتج عن أفعال الناس شيء آخر غير ما يتوقعون أو ينجزون، شيء آخر غير ما يعرفون ويريدون مباشرة، إنهم يحققون مصالحهم، لكن يحدث بجانب ذلك شيء آخر مضمر في الداخل، شيء لا ينتبه إليه وعيهم، ولم يكن في حسبانهم “. تقدم هذه العبارة مفاتيح منهجية مهمة لمعرفة وتحليل الكثير من الظواهر، سواء تلك التي تحصل في النطاق الفردي المحدود أو ما يحيط به من دائرة أو دوائر صغيرة، أو في الفضاء العام، بما في ذلك فضاء العلاقات السياسية على مستوى الدول منفردة أو على المستوى الكوني العام. إنها تعيننا على رصد تلك الأشياء غير المتوقعة التي نجمت عن أفعال واعية أو مدروسة قام بها أفراد أو زعماء دول أو قادة أحزاب أو جيوش، كانوا يرتؤون شيئا ويريدونه، ولربما تحقق لهم ما يريدون، ولكن مع ذلك نشأت أمور أخرى لم يكونوا يتوقعونها، حين ظهر شيء مضمر في الداخل كما يقول هيغل. يمكن سوق أسئلة عدة، على سبيل التدليل، تفضي إلى التأكيد على هذه النظرة الفاحصة. ويخطر في الذهن مثلا التأمل في نشوء المسألة التي يمكن أن نطلق عليها اليوم المسألة الأفغانية، فهذه المسالة لم تنشأ مع الغزو الأمريكي لأفغانستان، ولا حتى مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر “أيلول” عام2001، التي وجد فيها المحافظون الجدد ضالتهم لشن الحرب التي كانوا في حاجة إليها. إن جذور هذه المسألة المعقدة تعود إلى بدايات دخول الوحدات العسكرية السوفيتية إلى كابول، حماية للنظام اليساري الذي وصل السلطة عن طريق انقلاب عسكري سهل في بلد كان حتى ذلك الحين منسيا، رغم أهميته الاستراتيجية على الطرق الدولية. لقد نظمت الإدارة الأمريكية وأجهزتها الاستخباراتية وبمعونة حلفائها في المنطقة حرب استنزاف ضروس ضد القوات السوفيتية هناك، أسفرت، في ما أسفرت، عن بروز ظاهرة التطرف الإسلامي المسلح ممثلة اليوم في تنظيم “القاعدة” وتفرعاتها. لقد حققت الإدارة الأمريكية مصالحها من وراء ذلك، فقد أدرك ميخائيل غورباتشيوف بعد أن استوى على قمة المكتب السياسي والدولة في موسكو ضرورة سحب قوات بلاده من أفغانستان أمام حجم الخسائر التي واجهتها، أكثر من ذلك ساهمت هذه الحرب في إضعاف الموقع الذي أخذ في التضعضع للنظام السوفيتي. لكن شيئا آخر “مضمرا في الداخل” ، لم ينتبه إليه الأمريكان في حينه ولم يكن في حسبانهم، هم أنهم أسسوا لقوة منظمة، مؤدلجة سترتد عليهم بذات السلاح الذي مدوها به، ودربوها على استخدامه. بقية الحكاية معروفة: كانت القاعدة، وكان الحادي عشر من سبتمبر “أيلول” وكانت التفجيرات هنا وهناك، وكان ما عرف بظاهرة الإرهاب. يمكن لنا أن نستطرد كثيرا في مثل هذا النوع من الشرح، لنرى كيف أن الأشياء الفائضة، بمعنى الزائدة عن الفعل الأصلي، تستوي هي ذاتها فعلا أصليا تنتج عنه مفاعيل ربما تعدت في خطورتها وأبعادها حجم الفعل الأول وأهدافه.
صحيفة الايام
24 يونيو 2009