مقالة الأسبوع الماضي أحدثت ردود فعل مختلفة عكستها تعليقات منشورة ورسائل حملها بريدي الألكتروني ومكالمات تلفونية. وعلى اختلافها فجميعها يدل على أهمية ما يجري في إيران عالميا، شرق أوسطيا، عربيا وخليجيا، وخصوصا بحرينيا. فهي “شغل” ليس فقط السياسيين، بل وعلى مستوى المواطن العادي. إنك تستطيع أن تقرر من هم أصدقائك من عدمهم، أما الجار فهو معطى جغرافي ليس لك إلا أن تعرفه وتفهمه جيدا، فخيره من خيرك، والعكس.
في فبراير الماضي، كتبت مقالتين بمناسبة الذكرى الثلاثين للثورة الإيرانية وقرب الانتخابات الرئاسية الإيرانية. وفيها تحدثنا عن التطور الحلزوني للثورة خلال مسيرتها. متابعة هذا التطور تسمح بفهم طبيعة الحدود التاريخية التي وصل إليها النظام في هذا البلد. حتى الانتخابات قبل الأخيرة استطاع مرشد الثورة أن يتحكم ويتقن توجيه تطور النظام في حدود توسيع أو تضييق الأطر المرسومة من قبله. إذا ضاق المجتمع ذرعا بحكم “المحافظين” أعطى المرشد الضوء الأخضر “للإصلاحيين” كي يحدثوا متنفسا، وهكذا دواليك. غير أن فترة الرئاسة السابقة تميزت باتجاهين متضادين بشكل صارخ ضمن حلقات التطور الحلزوني للثورة : تم استثمار كل أفضليات تحكم الدولة بالاقتصاد لصب قدراتها من أجل تحقيق مستويات عالية من التقدم العلمي والتكنولوجي والقدرات العسكرية (التي وضع قاعدتها خاتمي). ومن الجهة الأخرى تراجع تطور الاتجاه القيمي في النواحي الاقتصادية-الاجتماعية والسياسية والثقافية عما تحقق في عهد رئاسة خاتمي. وقد ارتقى هذا التضاد بحيث غدا تعبيرا مباشرا عن التناقض الداخلي لتطور الثورة وعن أزمة لم يعد من الممكن حلها في إطار تبادلية توسيع وتضييق الأطر.
ظهر المرشد في البدء وكأنه يريد مواصلة لعبة التبادلية وإطلاق دورة جديدة من التطور الحلزوني للثورة الإسلامية. وفهمها خاتمي على أنها ضوء أخضر لخوض انتخابات الرئاسة. وما كان للرئيس أحمدي نجاد أن يقف ندا لخاتمي الذي أصبح شخصية سياسية وثقافية وإنسانية عالمية ودخل في ضمير المجتمع الإيراني إذ أن الأخير استطاع أن يفتح إيران على العالم الخارجي بكل تلاوينه. غير أن الأمور سرعان ما تبدلت. أعاد المحافظون حساباتهم ليجدوا أن الاستقطابات التي تغيرت بشكل حاد ونوعي قد وضعت غالبية “خط الإمام” أيام الثورة أمثال رفسنجاني، يزدي كروبي، خاتمي موسوي في جبهة، ومن تبقى بقيادة خامنئي في جبهة أخرى. على أن الاصطفافات في داخل السلطة السياسية قد تعدت مجرد الرموز وعلاقاتها بالجماهير الدينية إلى مستوى المؤسسات. فالسيد رفسنجاني رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، كما أن رئيس البرلمان علي لاريجاني انتقد بشدة استخدام القوة المفرط وقتل المتظاهرين. وفي إطار هذه الانقسامات كانت جبهة “الإصلاحيين” تتمتع بكونها أقدر على تقديم حلول أكثر عصرية ومقنعة للمجتمع، والثانية لكونها أصبحت أكثر سيطرة على الدولة والمجتمع. وحرمان المحافظين من هذه الامتيازات قد يعني انتهاء دورات التبادلية ولغير صالحهم هذه المرة. ولهذا سرعان ما اضطر خاتمي لسحب ترشيحه. وسرعان ما مر موسوي عبر مصفاة النظام ليصبح المرشح “الإصلاحي” البديل لخاتمي. ربما حدث ذلك باعتبار أن التعبئة ضد موسوي وهزيمته أكثر سهولة من خاتمي.
غير أن الاصطفافات والتوازنات ليست فقط في هذا الإطار، كما حاولت أن تصورها خطبة المرشد. فأي مراقب لتطور الأوضاع في إيران يعرف أن الشعب الإيراني ليس حبيس الصراع المعلن بين طرفي السلطة الدينية الحالية. في تاريخه النضالي العريق عرف الشعب الإيراني أشكالا مختلفة وراقية من التأطير الحزبي والجماهيري. وهي وإن تم قمعها وتهجير خيرة كوادرها إلى الخارج، إلا أنها عادت واختمرت تحت السطح من جديد. وبتكتيكاتها المختلفة فهي تطفو وتغوص لتحدث تأثيرها في تحويل ميزان القوى لصالح الأفضل المتاح بين طرفي الصراع الديني. وسواء رجال الدين أو القوى الشعبية الأخرى يعرفون جيدا أن ما يجري حاليا هو إيذان بتطور الحركة الاحتجاجية الشعبية للخروج من شرنقة الأطر الرسمية الحالية. إنه انقسام في المجتمع حول النظام، أوسع منه انقسام في إطار النظام ذاته. لكنه يضيّق دائرة الحصار على القوى الأكثر محافظة ورجعية. ولذلك فهي الأكثر حساسية تجاه احتمالات تحالفات قد تنشأ بين “إصلاحيي” النظام وقوى المجتمع من خارج النظام (داخل إيران). وفي هذا كله سر الشعبية العارمة وسر ملايين الناخبين الذين زحفوا إلى صناديق الانتخابات من أجل التغيير بعد أن ظلوا عازفين. ولهذا فإن التعامل مع المعارضة بدا أقسى من السابق، وربما سيكون أشد قسوة في المستقبل. ومع التسليم بأن هناك بالفعل قوى خارجية تتربص بإيران انطلاقا من رغبتها في عودة سيطرتها على هذا البلد الغني والاستراتيجي الموقع، فإن هذا لا يعطي لأحد الحق بأن يربط عضويا بين حركة الاحتجاج الجماهيرية الأصيلة وتحريك لهذه الجماهير من الخارج.
بدافع هذا القلق تخلى المرشد عن حياديته هذه المرة فصرح بلا مواربة بأنه لا يعتبر الرئيس أحمدي نجاد هو الفائز بلا جدال، بل وأنه الأقرب إليه فكرا ونهجا. وحذر من استمرار احتجاجات الشارع. وفي داخل وخارج إيران ترقب الكثيرون على اختلاف مذاهبهم الدينية والفكرية والسياسية خطبة مرشد الثورة الإسلامية قبل صلاة الجمعة الماضية باهتمام بالغ. لم يكن ذلك بحكم شغفهم أو اعتيادهم سماعه، بل لاستشفاف مستقبل الأحداث.
الخميس شهد تظاهرة جماهيرية صاخبة توشحت بالأسود حدادا على الذين سقطوا ضحايا القمع. مير موسوي ومهدي كروبي لم يحضرا صلاة الجمعة ودعا موسوي أنصاره إلى عدم الحضور لتفادي الصدامات. ولحد الآن (صباح السبت) لم تعلن المعارضة عن استسلامها. وفيما عدا رضائي الذي حضر الصلاة والخطبة وسلم للمرشد بالحكم النهائي المطلق، فإن مهدي كروبي واصل بعد الخطبة دعوته لإلغاء نتائج الانتخابات. أنصار موسوي لم يلغوا لحد صباح يوم السبت (حيث تجري كتابة المقال) المسيرة التي ينوون القيام بها مساء نفس اليوم.
ومرة أخرى، فكيفما تطور الموقف بعد خطبة الجمعة فإن إيران قد دخلت مرحلة جديدة بعد الانتخابات الأخيرة.
صحيفة الوقت
22 يونيو 2009