فيما كان سياسيو الشرق في بدايات القرن العشرين يحاولون القفز على الرأسمالية الغربية الخاصة، عبر نماذج مصطنعة، توجه سياسيو الشرق في أواخر هذا القرن إلى احتذاء نموذج الرأسمالية الغربية، لكن لا تزال الكثير من العقبات والآراء ومستويات التطور الموضوعي المتباين تحول دون ذلك.
وعلى أساس تطورات الرأسمالية الشرقية تنشأ ثلاثة موديلات:
موديل الهيمنة الرأسمالية الحكومية المطلقة وهو نموذج قام به الاتحاد السوفيتي. ولم تستطعْ الدولُ الأخرى أن تقومَ بمثلهِ لصعوبتهِ وتطلبه مواردَ هائلة وخطورته على التطور الاقتصادي المستقبلي.
موديل هيمنة الرأسمالية الحكومية مع وجود قطاعات خاصة بهذا الاتساع أو ذلك، لكنها لا تمثل الركيزة الأساسية للاقتصاد، وقد تكون مستقلة وقد تكون قد نشأت من الملكيات العامة بالباطن، وتقابل هذا حكومات دكتاتورية متعددة الأشكال السياسية لكن القبضة على الموارد العامة تكون هي السمة المشتركة.
وأخيراً موديل التعاون بين القطاع العام والقطاع الخاص بقيادة الأول، وهذا يفترضُ وضعاً ديمقراطياً ووطنياً منسجماً، وهو أمرٌ يشكلُ العكس كذلك من دون الخروج عن عملية التعاون، أي أن يقوم القطاعُ الخاصُ بقيادة التطور الاقتصادي بدون إلغاء للقطاع العام الصناعي. أي أن هذا النموذج تحكمهُ مقارباتٌ بين القوى الاجتماعية الوطنية المختلفة من أجل تنمية القوى المنتجة المحلية بطرق اقتصادية مختلفة، ويجمعها جامعُ التطور المشترك لقوى الإنتاج. وهذا النموذج تمثله بعض التجارب في دول أمريكا اللاتينية عبر حكومات اليسار.
وفي حالة ثالثة هي حالة الصراع والإلغاء فإن الوضع الاقتصادي يتجه إلى الفوضى والاضطراب لغياب استراتيجية اقتصادية وطنية تجمع القوى العمالية والشعبية مع القطاع الخاص في خطة تنموية واحدة مشتركة كحالة مصر مثلاً.
وإذا لم يقمْ أي بلد بتأسيس قواعده الصناعية الكبرى فإن أنماط رأسمالياته الحكومية والخاصة تظل في حالة سيولة اقتصادية وسياسية غير مستقرة على نمط لبنان على سبيل المثال.
وتمثل رأسماليات الخليج العربي الحكومية حالة مماثلة للموديل الثاني، فالحكوماتُ هي المهيمنة على أغلبية الموارد، وهناك هوامش كبيرة أو صغيرة للقطاع الخاص، مع مشكلات خاصة بالمنطقة، مثل الهدر الكبير للثروة من خلال ظواهر كثيرة: الفساد الحكومي، والعمالة الأجنبية، وتضخم أجهزة الدول، وغياب النساء عن الإنتاج، وضعف التطور العلمي الخ.
تؤدي مقارباتُ الدول الرأسمالية الحكومية للنموذج الغربي الرأسمالي، إلى سلسلة من التطورات والمشكلات الجديدة والصراعات السياسية والاجتماعية والثقافية الحادة.
فالانتقال من الموديل الأول إلى الموديل الثالث لأن الموديل الثاني هو تحصيل حاصل للأول، يعني تغيير بعض القطاعات العامة بيعاً أو إجراء إدارة رقابية شعبية واسعة على الفوائض الاقتصادية الناتجة عنها، وتغيير العلاقة السياسية المهيمنة البيروقراطية على الاقتصاد إلى علاقة اقتصادية تعطي السلع وأدوات الإنتاج مساراتها الخاصة الموضوعية، وهذا يقود إلى تبدل أسس النظام ونسف الكثير من علاقاته.
ويعتمد ذلك على كيفية تغيير القوى السياسية للعلاقات الاقتصادية، هل ينشأ ذلك بخطة وطنية وبعلاقات ديمقراطية بين قوى الشعب أم أن حيتان القطاعات العامة تبقى مسيطرة. وإذا استمرت الحيتان فإن ذلك لا يعني تغييراً إلى الموديل الثالث بل هو بقاء في الموديلين السابقين.
وإذا حدث تغيير حقيقي، وتحول الرأسمال الوطني المجسد في شركات حكومية وأموال حكومية، وغدت كلها بيد الإدارة الشعبية، فهذا أمرٌ يغير البناء التحتي، وتتبدل علاقاتُ الإنتاج، ولا تعودُ الدولة هي المالكُ الكلي، وتصير رمزاً للمالكين الحقيقيين سواء كانا قطاعاً عاماً أم خاصاً.
إن قوى الإنتاج المادية والبشرية التي تتعرض للاستنزاف من قبل الدول المهيمنة الفوقية والمُخطـطة كيفما تشاء للاقتصاد، وهو ما يقود إلى أشكال كثيرة من الفساد والهدر، تتعرض للتآكل والضعف على مستويات مخلتفة كأن تتضخم في جانب وتضعف في جوانب أخرى مهمة، أو أن تذهب الموارد إلى الخارج، أو إلى بذخ المسئولين. وهي عادة تجعل القوى العاملة في ضنك معيشي مستمر، وفي حالة ضعف علمي، وتضخم عددي كمي، نظراً إلى طابع الاقتصاد غير المخطط.
حقق النمط الأول خاصة تحولات كبرى في الإنتاج وحقق الثورة الصناعية في ظروف الشرق، لكن مع استمرار الدكتاتورية السياسية فإن الفوائض الاقتصادية وربما حتى الإنجازات الصناعية قد تتعرض للتدهور، بسبب بقاء عمليات الفساد والبيروقراطية، وبالتالي فإن فوائض كبيرة تذهب إلى الخارج، أي أن الهبوط إلى الموديل الثاني ممكن كذلك للموديل الأول، مثلما يحدث في جمهورية روسيا الاتحادية حيث يحدث نزيفٌ مالي نحو الغرب، وتبقى الصناعات ضعيفة، وتبقى الدولة بائعة مواد خام ثمينة وبضائع عسكرية. وهكذا فإن شبح الدولة الاستبدادية يطارد روسيا دائماً.
أما الموديل الثاني فهو جائزٌ أن يرتفعَ إلى مستوى الموديل الأول، إذا حوّل قسماً كبيراً من الفوائض لإعادةِ إنتاجٍ موسعٍ موجهٍ إلى التحديث الصناعي والتحديث العلمي وإلى تغيير الـُبنى الاجتماعية والثقافية المتخلفة.
وتقومُ هذه الأنماط على نمو العلاقات الرأسمالية العالمية كذلك، المتناقضة بين الشرق والغرب، أي بسبب انتشار العلاقات الرأسمالية الواسعة في دولِ الشرق، وكذلك بسببِ تأزم العلاقات الرأسمالية في الغرب.
وهذان المظهران المتضادان يعكسان شبابية الأسواق الشرقية ووجود قوى عمل هائلة ورخيصة في بعض الدول الكبيرة، وحدوث انتقالات للرأسمال الغربي نحو هذه الدول، وشيخوخة الرأسمالية في الغرب من حيث تصاعد الأسعار والأجور والبحث عن الأسواق المتقلصة دائماً وتفجير بعض الحروب، (وهذه العملية تشكل إعادة إنتاج موسعة عالمية في بعض الدول الآسيوية الكبرى فيما هي تدهورُ بلداناً أخرى إلى درجة الهلاك)، إن هذه الظواهر تطور الرأسمالية في بعض بلدان الشرق، وتقوي حضور العمال والمؤسسات الديمقراطية الأهلية في حياة الدول الغربية.
كما أن الدول الغربية تستدعي عمالة شرقية رخيصة، مثلما تمتص الفوائد النقدية الكبيرة، القادمة من دول النفط.
وهكذا فإن أزمة العقارات الأمريكية مثلاً تعبر عن تصاعد الاقتصاديات الطفيلية، أي تسارع بعض القطاعات المالية خصوصاً لجني أرباح كبيرة بدون أن يواكب ذلك تطور الإنتاج، فتغدو الأزمات المالية الغربية ليس كما كان في الماضي مقصورة على الغرب بل تصبح عالمية، بسبب تشابك موديلات الشرق الاقتصادية مع الرأسماليات الخاصة الغربية. فتغدو الظواهر الطفيلية والأزمات كونية تعرقل الإنتاج العالمي.
صحيفة اخبار الخليج
21 يونيو 2009