المنشور

انقسام الشارع الإيراني !

في كل مناخ انتخابي رئاسي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، يبرز على السطح التعبير العارم عن تلك الروح الراغبة في التغيير لدى شارع سياسي مكتوم ومتأزم، وتسوده نوع من الحياة البوليسية والأمنية بسبب سلطة الحرس الثوري كقوة ثانوية موازية لسلطة الدولة بقبضاتها الغليظة، غير ان المناخ الانتخابي يفرض مساحة من التعبير الكامنة تحت سطح الأرض، والتي تجد لها في اللحظة الانتخابية متنفسا حقيقيا سرعان ما ينفجر بشتى الوسائل والاتجاهات خاصة في مركز الدولة وعاصمتها طهران، حيث يعيش فيها أكثر من 15 مليون إنسان . ما يميز الانقسام الإيراني ووضوحه هذه المرة هو ذلك التذكير بمرحلة ترشح محمد خاتمي قبل اثنتي عشرة سنة، وانتصاره نتيجة ذلك الزخم الشبابي والمجتمعي، إذ صبت الأصوات من قطاعات متلونة له مفضلة اختياره على الرئيس هاشمي رافسنجاني. استعادة تلك الصورة اليوم وحرارتها الانتخابية في شارع التهبت فيه الحسرة والرغبة معا، وتداخل التراث المأتمي في أساليب الشعارات والصيحات والحلقات الهتافية، وكأن البلاد تمر بيوم من أيام عاشوراء المجيد، فقد اختلط اللون الأخضر بالأسود في موكب مشهود احتاج فيه المرء للتركيز على من يؤيدون من؟ طالما الركض في الشارع وفي الساعات الأخيرة من إيقاف الحملة الانتخابية لكي يتحول يوم الجمعة إلى معركة حقيقية بالأوراق الصامتة من وراء ستارة أكثر صمتا وتاريخ أكثر غرابة وتعقيدا في تاريخ الثورات الإنسانية. لسنا هنا من يستطيع التكهن في ذلك الشارع وما الذي يخبئه من مفاجآت، فذلك أمر من الصعب التنجيم فيه . عاد فقراء الريف الإيراني لانتخاب نجاد والذي وعد في حملته السابقة أن يضع على مائدة كل الفقراء برميل من النفط كتعبير عن معالجة فقرهم ووضعهم المعيشي المتردي ؟ السنوات التي مضت لم تترجم تلك الأفكار والبرنامج الانتخابي إذ توزعت الميزانية بين الجيش والأمن والمتنفذين والمؤسسات التابعة للمحافظين ومشاريع نووية غامضة بميزانيات مجهولة يعلن عن رقمها الوهمي ! . ما تعكسه عدسات الإعلام محصور في طهران وهي الثقل الانتخابي والمؤشر الفعلي لاتجاهات الصراع، فيما ظلت مصابيح الأطراف البعيدة خافتة لا يعرف احد عن مصيرها وأين تتجه أصواتها هذه المرة، إذ حاول الرئيس قبل ستة شهور قبل الانتخابات القيام بمشاريع بدت كنوع من «الرشوة السياسية للسكان» فعلت الأصوات لماذا جاءنا الرئيس متأخرا !! فمثل تلك الانجازات العاجلة لن تزيل ركام من التخلف والبؤس الداخلي لدولة ثرية كان بإمكانها نقل إيران نحو تنمية أفضل بدلا من العيش داخل عزلة وحصار ومكابرة سياسية في عصر مختلف. الاتهامات المتبادلة بين المترشحين كانت عديدة ولكن محورها الأساسي إن موسوي محّورها في عبارة الفساد والمفسدين فيما ركّز نجاد عبارته ضد الآخرين كونهم «كذابين وعملاء للأجنبي» وهي لغة متوقعة في شارع سياسي منقسم حتى النخاع، عاش ويعيش لحظة سياسية وتاريخية ومفصلية ينتظر نتائجها العالم الخارجي والقوى الإقليمية، ففي متغير الوضع الإيراني لا بد وان تحدث متغيرات في الوضع العالمي سياسيا واقتصاديا وثقافيا . كان واضحا مدى تكثيف الإعلام الخارجي وبدبلوماسية شفافة وحذرة في دعمه للإصلاحيين مما أثار حفيظة الاتجاه المحافظ وبروز خطاب القوة والعنف والتهديد من جماعات الحرس الثوري فيما لو مالت كفة ونجح مير حسين موسوي وهي لغة كثيرا ما تبرز لحظة الشعور باحتمال فقدان الرئيس لمقعد الرئاسة . ولم يعد احد يجهل أهمية ودور الشباب في كل حملة انتخابية، فهم باتوا يشكلون الثقل المحدد لانتصار كل مرشح والثقل المؤثر في قوة الدفع والتغيير والمواجهة، دون نسيان القطاعات المجتمعية الأخرى والمستعدة في كل الأوقات للصراع والمواجهة، كالمثقفين والنساء والعمال والفلاحين وصغار التجار وشرائح المهن المختلفة. بإمكاننا أن نصف كل جولة انتخابية رئاسية في إيران بأنها اللحظة التي تضع إيران في المنعطف التاريخي، فكل ما نشهده من كرنفالية انتخابية قد لا نجدها بسهولة في أي بلد من البلدان النامية ولا حتى في أي بلد من بلدان العالم، لا في زخم الحماس والمواجهة ولا شكل المناخ والانفجارات المنتظرة والتوتر العالي والشديد في الناخبين، والذين يلتقون جميعهم في خشوعهم للمرجع الديني الأعلى التي قد تربك الولاء السياسي عندهم كلما أومأت تلك المرجعية بظلال خفية باختيار من ترغب و تميل . هذا التداخل الديني والسياسي وهيمنة الأول على الثاني في الحياة الداخلية والسياسية على الدولة والمجتمع كان سببا جوهريا في التدمير الايديولوجي والسياسي للثورة والجمهورية منذ اندلاعها . إيران المزدحمة بملفات كثيرة، والمشحون شعبها بأحلام كثيرة، وتطلعات للخروج من الاختناق المجتمعي والاحتقان السياسي، إذ صارت طاقة إيران الهائلة مبعثرة وضائعة في الفقر والتنمية البطيئة في عالم يركض بسرعة نحو الثورة المعلوماتية والمعرفة، ولن يتهيأ ذلك لإيران طالما ظلت محاصرة ومزولة عن تلك الثورة بكل تجلياتها العالمية، من انفتاح وتبادل دون حاجة للخوف من الأخر . هكذا تعلن إيران في الأيام القليلة المقبلة، وفي يوم الحشر السياسي الكبير من تاريخها، بان الهزيمة والانتصار يبقى درسا ديمقراطيا مهما في المنطقة والعالم، حتى وان كانت ناقصة ديمقراطيتها ومقيدة بسلطة عليا تحدد شروطها أولا ودرسها بوجه مشوه. الثقافة في إيران سلاح انتخابي أعمق، وقد ظلت على الدوام هي الخندق المستمر للمواجهة والتغيير، ولكن بوجوه وأشكال فنية عدة، كلعبة من العاب الخداع السياسي بأقنعة ثقافية جميلة كالرواية والقصة القصيرة والمسرح والسينما كأوعية تعبيرية وتحريضية صامتة وكامنة خرجت إلينا في لحظة الانتخابات.
 
صحيفة الايام
21 يونيو 2009