المنشور

إيران .. على أعتاب تغيير قادم

دخلت إيران بعد يوم واحد من الانتخابات الرئاسية العاشرة الحالية مرحلة جديدة في تاريخها المعاصر، سوف يؤرخ بالثالث والعشرين من خرداد 8831( حسب التقويم الفارسي)، الذي يوازيه في التقويم الجيورجي بالثالث عشر من يونيو .9002. هذا بالطبع لمن يعرف التاريخ الإيراني/ الفارسي جيداً ودرس النفسية المتمردة والعنيدة للشعب الإيراني طوال تاريخه المديد..الخصلة التي تتجسد في البداية بفترة سكون طويلة، تتسم بالكثير من الصبر والتحمل من قبل المواطنين الإيرانيين، يكتم خلالها الناس في صدورهم مشاعر من الغيظ والغضب المتأتي من الصراع الطبقي والتمايزات الاجتماعية والثقافية. ولكن بعد عقدين أو ثلاثة يتحول ذلك الغيظ المكتوم إلى اضطرابات تتوسع تدريجيا. أو قد يتحول الغضب- فجأة وبلا أية توقعات- إلى انفجار يكتسح الشوارع والساحات العامة في حراك اجتماعي (سياسي) شعبي عارم ومتميز، لم يلبث إلا ويتوسع – يوما بعد يوم- على شكل حشود بشرية مليونية، تصل إلى نقطة أشبه بعصيان مدني شامل يكون من الصعب السيطرة عليه، يؤدي في النهاية – آجلا كان أم عاجلا- إلى تغيير نوعي مختلف (إيجابا أو سلبا) ، يجد فيه المجتمع الإيراني نفسه في خضم دورة تاريخية/اجتماعية كاملة!
هذا هو مشهد التاريخ الإيراني الحديث ( ناهيك عن تاريخه القديم والوسيط )؛ الثورة الدستورية في مستهل القرن الماضي.. نهاية الدولة القاجارية في العشرينات (بدء ديكتاتورية بهلوي).. أحداث مستهل الخمسينات أي ثورة تأمين النفط الإيراني، التي فشلت نتيجة الانقلاب العسكري الأمريكي/ الرجعي.. ثورة ‘بهمن’ في سنة 9791 (عرفت بالثورة الإسلامية كتجربة جديدة في المنطقة).. والآن بشائر’ثورة تحديثية’ في العقد الأول من الألفية الثالثة ضد الدولة الدينية الأحادية الحالية ( سلطة ولاية الفقيه المطلقة) حيث باتت نتائجها الآنية غير معروفة، ولكن تداعياتها القادمة – في الأفق المنظور- معروفة سلفاً.. بمعنى أن شوارع طهران والمدن الإيرانية الأخرى سوف تقرر المصير التاريخي لأفول أيدلوجية ‘الإسلام السياسي’ المتطرفة والأحادية، بنفس الدرجة التي بثت (الثورة الإيرانية) الروح في الحركات ‘الإسلامية’ المتناثرة، في طول المنطقة وعرضها، قبل 03 عاما! والمفارقة الغريبة.. أو الملاحظة الجديرة بالتأمل (المادة الخام الغنية والفريدة لدارسي علم السوسيولوجيا).. هي أن الاحتجاجات الشعبية الإيرانية تبدأ عادة بشوارق بسيطة من الاضطربات العادية الروتينية ( موجودة في كل المجتمعات)، التي سرعان ما تتحول – كما أسلفنا- إلى فوران من الغضب الشعبي، تتحول لمظاهرات جماهيرية لا تعرف الاستكانة.. تتمترس كلها خلف شعارات ومطالب راديكالية لا تقتنع بالحلول الوسطية، ولا تقف في منتصف الطريق مهما كان الثمن ومهما طال الزمن.
انشطرت الآن النخبة الحاكمة في جمهورية إيران الإسلامية إلى قسمين لدودين، كاستجابة لانقسام المجتمع (أفقيا وعموديا) بعد أن بات من المستحيل تقريبا؛ حدوث تغيير تدريجي نحو الحريات الديمقراطية والمجتمع المدني والتعددي بالطرق السلمية والقانونية، بسلك الدروب الانتخابية العادية. ومرد ذلك أن ‘اليمين الرجعي’ الماسك بزمام الأمور، بقبضة حديدية منذ 5002 قد أغلق الباب نحو التطور الطبيعي للتغيير الموضوعي والتقدم في الساحات السياسية/ الاجتماعية/ الاقتصادية/ الثقافية. وسوف لن يسمح أبداً بحدوث أو بتكرار نتيجة مشابهة للانتخابات الرئاسية المشهورة في اليوميات الإيرانية بملحمة ‘2 خرداد 6731′ ( 7991 ميلادية) حينما اكتسح الديني المتنور’ خاتمي’ تلك الانتخابات ليصبح أول رئيس جمهورية إصلاحي. والملاحظ أنه ومنذ مجيء ‘نجاد’ في سنة 5002 إلى السلطة، مروراً بسيطرة المحافظين المتزمتين على مفاصل النظام في الانتخابات البرلمانية سنة 8002 ، جرت عسكرة النظام بقيادة ‘الحرس الثوري’ و’البسيج’، حيث صار لهما اليد الطولى للسيطرة الشاملة على كل مناحي الحياة في إيران ومنها نتائج الانتخابات ‘المسرحية’ هذه ( حسب تعبير المعارضة). وإذا صحّت المعلومات التي أفادت بها المخرجة السينمائية الإيرانية المشهورة ‘ سميرة مخملباف’ في باريس قبل أيام على إثر خروجها من إيران بعد الأحداث الأخيرة في معرض روايتها وتفسيرها، كونها شاهدة عيان على ما حدث بالضبط.. حين لخّصت بأن المسألة عبارة عن انقلاب عسكري على الشرعية والقانون في إيران!.. وروت مباشرة للفضائية ‘العربية’ أنه في مساء يوم الانتخابات كان قد جرى اتصال رسمي من قبل اللجنة الانتخابية بـ ‘مير حسين موسوي’ ليعلنوا له عن فوزه في الانتخابات، الأمر الذي حدا به إلى نقل ذلك الخبر لمؤيديه وناخبيه، ولم تمر إلا فترة من الوقت حتى اقتحم عليه ضباط مدجّجين بالسلاح من الحرس الثوري ليفرضوا عليه نتيجة مغايرة مع تهديد مبطّن!
لعل خير تسمية للحركة المعارضة الحالية هي؛ ‘انتفاضة الناخبين’ المسروقة أصواتهم، التي اتسمت بمزايا عديدة -قديمة وجديدة- تتلخص في؛ مشاركة نسوية وشبابية متميزة / تكتيك سلمي عالي الحِرفية يقابل الخطط الجهنمية لوزارات الداخلية والإعلام والمخابرات في محاولاتها المستميتة لجرّ المسيرات لشِرك التخريب بواسطة القمع الشديد المباشر (مجموعة من الضحايا المقتولين حتى الآن) والعسف المتمثل بغارات ليلية على المواطنين العزّل، خاصة الطلاب / الاستفادة المثلى والظرفية من مزايا الانترنيت والهواتف النقالة للتواصل وتغطية تطورات الأحداث وترويج شعارات الحركة بالرغم من ‘غول’ الحظر المتواصل من قبل العناصر الأمنية للحد من تسرب الأخبار المسموعة والمرئية خاصة.. بجانب مزايا أخرى عديدة. إلاّ أن سمة جديدة قد برزت في الانتفاضة الحالية لم تكن موجودة من قبل.. هي تراجع واضح لدور المؤسسة الدينية التي كان لها دائما سهم كبير فيما بين ثورتي ‘الدستورية’ و’بهمن’ ، ولو أن الرموز الدينية المعارضة تقود هذه الحركة من الناحية الشكلية، حيث بات واضحا أن حركة الشارع متقدمة على الزعماء الإصلاحيين الذين ما انفكوا يطلبون من الناس أمور معينة لا تجد لها آذان صاغية-على الدوام- من قبل المتظاهرين. وأضحت صرخات الجموع هذه أشبه بحركة مدنية راديكالية ذات صبغة علمانية وعصرية واضحة !

صحيفة الوقت
20 يونيو 2009