أدت الأحداث الإيرانية الراهنة إلى خلق نوع من الصاعقة السياسية في الكثير من الأوساط التي فوجئت بأن عوامل الصراعات السياسية الحادة من الممكن أن تقتحم بقوة الجسد الفارسي (المقدس)، الذي صُور خلال عقود ثلاثة بأنه خارج مثل هذه العمليات البشرية الأرضية (الوضيعة).
وككل ثورة شرقية تـُضفي على نفسِها مثل هذا البخور الغيبي، عليها أن تدفع ثمن هذا التجاهل لحاجات البشر العادية ولتغييب الوعي الموضوعي بالعملية التاريخية الصراعية بين الحاكمين والمحكومين، بين كبار الأغنياء وبحر الفقراء، بين الإدارة الشمولية وحاجات الشعب الملحة.
وإذا كانت الأحداثُ السياسية بطبيعتِها المفاجئة تتركزُ الآن فيما هو سياسي مهم، وهو عملية التزوير في الانتخابات لصالح مرشح السلطة، وأن الشعبَ نزل للشوارع ضد هذه الطبخة السيئة، إلا أن مجريات التاريخ القادم سوف تتعدى مثل هذا الحدث وسوف تطرحُ أسئلة عن مستقبل الدولة الدينية الشمولية، وعن مسائل الإصلاح في الملكية الحكومية المركزية وامتداداتها العسكرية، وعن الحكم المذهبي وخطورته على البلد، أي بلد، وأن الحداثة والعلمانية والوحدة الوطنية والعدالة في توزيع الفوائض الاقتصادية الحكومية، هي مسائل أولى على الخريطة السياسية لأي بلد شرقي.
ومن الواضح كذلك أن المظاهرَ العفوية لهذه الانتفاضة تحددُ بعضَ ملامح الأجسام الاجتماعية التي دخلتْ حومة الصراع، فالشباب هو القوة الأساسية، والفئات الوسطى المدنية في طهران هي التي تقودُ هذا التحرك، وهذا يطرحُ أهدافاً سياسية مباشرة وهي إلغاء نتائج الفرز المزور للانتخابات، وتقف الأهداف عند هذا الحد الظاهري.
لكن ما هو متوارٍ أبعد من ذلك بكثير، فهناك سلطة المرشد وظله الأرضي الرئيس المزور له، ومباركته السريعة والقوية لهذا تضعهُ في دائرة المساءلة، ومن هنا تتكاثر الأصواتُ بأن يكون المرشد تحت القانون لا فوقه.
وهو أمرٌ لم يسبق أن طـُرح، وهكذا فإن الدولة الدينية الشمولية غدت هي موضع التساؤل الشعبي الواسع والحاد، وتتصارع المراجعُ بين مؤيد ومعارض، لكن أغلبية المراجع المحافظة المؤيدة للسلطات التي لا تـُحد للمرشد توضح هذا العناق بين الآراء المذهبية المؤيدة للاستغلال الطويل والعتيق للعامة، ومحدودية الآراء الدينية الديمقراطية المصارعة لهذا الاستبداد، لكن مع ذلك هذه بداية فقط وعملية تجديد إيران ديمقراطيا مسألة تاريخية طويلة.
إن السلطة الدكتاتورية في قمة الهرم غدت محل تساؤل، ونزول الجمهور إلى الشوارع بهذه الملايين التي لم تحرق إطاراً أو صندوق قمامة، هي تحد لقرارات المرشد بدرجة أساسية وان حاول أن يلتفَ عليها ويبعدها عبر إجراءات غير ذاتِ قيمة مع موافقته السياسية السريعة غير الحكيمة على التزوير.
لم يعد العلمانيون والأمريكيون والتقدميون هم الذين ينتقدون النظام الآن، النظام تنتقدهُ جماهيرُ الشعب الإيراني نفسه.
وليست الأهداف مشتركة بين خصوم إيران الكثيرين الذين يتوجه العديد منهم لتحطيم منجزات ثورة مهمة في المنطقة، ويريدون سحق إنجازاتها وآثارها، فهناك من أشار كثيراً إلى تلك السلبيات وعارض الدولة الأتوقراطية ولم يعارض نضال الشعب أو مذهبه الديني.
لقد نزلت الأحداث الإيرانية قبل ثلاثين سنة كصاعقة أخرى كبيرة مشتعلة بالبروق والوعود، وتوجهت الأفكار الدينية المحافظة لجعلها خارج التاريخ، وخارج الدرس، وخارج العقل.
وصارت موجة كبيرة فاقمت التوجه الغيبي السحري نحو الدين، ووسعت بشكل لم يسبق له مثيل الصراعات الطائفية في المنطقة، وغدا معسكرا السنة والشيعة بارزين بشكل مؤسف ومتنام في كل مظاهر الحياة، فتخربت شعوبٌ وبيوتٌ ونضالات بسبب هذه الأساطير.
وفي النهاية فإن الرأسمالية الحكومية الفارسية دخلت في ظروف الحياة العادية، وسقطت من التحليق السماوي إلى شؤون البشر من أجور وغلاء وفقر ومصانع عديدة منتجة وتفاقم لسلطات البيروقراطية ولعلماء الدين والعسكر، واستخدمت في ذلك قوانين قمعية من خلال فهم ديني سطحي، وتكشفت عن نفس ما جرى في الدول الشرقية ذات الملكيات الحكومية الشمولية، مع فقدها أدوات التصحيح، واستغلت القوى الوسطى الثغرات السياسية في النظام لكي تنفذ من خلالها لعملية تغيير مواكبة للعصر.
وتظل العملية السياسية الصراعية في مستواها الراهن الآن بأنها تعبير عن قيادة فئات جاءت من استغلال النظام ذاته، فالذي يجري هو صراعاتٌ بين أجنحة الطبقة المسيطرة على وسائل الإنتاج الحكومية، التي هي الكبرى في إنتاج الثروة، وهي بالتالي تضع مسار الأحداث في يديها مركزة في تحويل محدود في السلطة الحاكمة.
لكن هذا التغيير المحدود في السلطة جائز له أن يتوسع، خاصة مع جمود أجهزة مؤسسة المرشد ومؤسسة الرئاسة، وأن ينفتح الصراع على قضايا كبرى، وكلما بقيت القضية ساخنة مطروحة في الشوارع، دخلت قوى اجتماعية أخرى في أتونها، ومضت إلى مناطق جديدة من الخريطة الإيرانية، وطرحتْ مسائل جذرية في المطالب الشعبية.
ولهذا كله تأثيرات بالغة في مستقبل السياسة الإيرانية والروابط الهشة بين القوميات داخلها، وفي برامجها التسليحية الخطيرة وفي حلفائها السياسيين المرتبطين بتلك الحلقة من الرؤى الشمولية السياسية في بلدانهم. فللمركز في صعوده تصعيد لقوى سياسية وكويكبات وشهب صغيرة وفي انحداره سقوط كذلك لتلك الكويكبات والشهب الناتجة من اشتعاله الأول، فإما أن تبحث لها عن مسارات جديدة وإما تتساقط في جوانب الأرض محدثة الانطفاءات والحرائق الأخيرة.
إن متابعة الأحداث الإيرانية وقراءة أعماقها وآثارها وعلاقات المذهبية بالسياسة، وعلاقات الإصلاح الاقتصادي بالمركزية، ورؤية كيفية الصراع بين القطاعين العام والخاص، وكيفية تطور الأدوات التعبيرية والسياسية والاجتماعية، كل هذه المسائل لابد أن تـُدرس بعناية خلال الفترة القادمة.
صحيفة اخبار الخليج
20 يونيو 2009