لعبتْ الرأسمالية الخاصة في لبنان دوراً كبيراً بسببِ أنه لا توجدُ دولة مركزية ذات أملاك كبيرة، وكان جهازُ الدولةِ يتسمُ بالضعفِ واللامركزيةِ في عقودٍ سابقة طويلة.
هذا جعل القطاع الخاص ينمو بصورةٍ كبيرة ويتفوق على جهاز الدولة الاقتصادي خاصة، وهذا ما جعل من لبنان دولة تحديثية تتسم بالتطور والحيوية والانفتاح، لكن القطاع الخاص نشأ من “أثدي” الاقتصاد التقليدي ومن الأسر الإقطاعية ذات الإنتاج الزراعي عامة.
لم تستطع الرأسمالية الخاصة أن تغذي الحداثة بشكل سياسي واسع، فهي رأسمالية ذات حضور تجاري من دون قواعد صناعية صلبة، (وكان هذا كله متجذرا في تاريخه الحضاري).
وضع الرأسمالية الخاصة وهي الموجودة في المشرق حيث الحضور الكبير للرأسماليات لحكومية جعلها مُخترقة من قبل هذه الرأسماليات الحكومية الشرقية القوية سياسيا وماليا. مثلما كان لبنان الماضي مُخترقاً من قبل الإمبراطوريات المشرقية الاستبدادية.
وما هو تجاري معاصرٌ خاصٌ يسعى إلى استقطاب الرساميل والشراكة معها، ويغدو وكيلا تجاريا، ثم يصيرُ وكيلا حزبيا وسياسيا، فتقيدُ الفوائدُ حرياتهِ الفكرية.
حدثَ اعتمادٌ لبناني على الحركات القومية والاشتراكية في فترة سابقة، حين كانت الأنظمة الرأسمالية الحكومية الشمولية كالنظام الناصري والسوفيتي والسوري ذات حضور كبير في المنطقة ولها جمهورها الحاشد وقدراتها المالية المؤثرة، ومن هنا كان الوكلاء السياسيون والمجلات الفكرية والأدبية والصحف ذات ألوان عاكسة لذلك الطيف السياسي العالمي والمناطقي.
إن تأييدَ أطيافٍ من الرأسمالية الخاصة اللبنانية لهذه الشموليات جعلها براجماتية وعملية وشعارية سياسيا، وهذا ما جعل جبهة القوى الوطنية واليسارية اللبنانية، والفلسطينية التي كانت صدى آخر في ظروف مختلفة، تعكسُ الخارجَ المسيطر من دون أن يطرأ على الداخل الرأسمالي الخاص سوى النمو الكمي.
من جهةٍ أخرى نجد القوى الممثلة للرأسمالية الخاصة الصميمة، التي هي صدى وفاعليات للرأسمالية الغربية بمناخها المسيحي غالباً، كالكتائب، ترابضُ عند مقولاتِ السوق الحرة والليبرالية غير العميقة، بسبب كونها ترتكز على عالم الضيعة والإقطاع الديني المتشكلين في المناخ المسيحي – الغربي المتضافر في العصر الحديث.
فهي كلها إذ تلتقي على روح الدكان الحر كشكلٍ للتوزيع التجاري، مشدودة بألفِ حبلٍ للأنظمة ما قبل الرأسمالية ولتطوراتها في الشرق وللوعي الفاشي الغربي كذلك.
حين تراجعَ مدُ الرأسمالياتِ الحكومية الشرقية المقاربة لحد ما للعلمانية، فهي تـُحيدُ الأديانَ عن العملية السياسية المباشرة، أخذ التجارُ السياسيون والاقتصاديون اللبنانيون يتطلعون لمصادر ثروةٍ جديدة.
وأغلب مصادر الثروة كانت في النفط، وكانت دولُ السعودية والعراق وإيران هي الدول البارزة في مثل هذا الإنتاج، فتحولت التجارة اللبنانية بنسبة كبيرة لهذه الدول وأشباهها.
هنا برزت تكويناتٌ تنظيمية سياسية مغايرة، ويبدو في مثل هذه التنظيمات التي انتفختْ بسرعةِ بسببِ رياحٍ نفطيةٍ هوائية قوية، الطابع الديناميكي للتحولات في لبنان، وكذلك هشاشة الحدود السياسية والفكرية، وسرعان ما برز تنظيمان رئيسيان هما حزبُ المستقبل وحزب الله يعكسان واقع الدولتين الكبريين في تصدير النفط في المنطقة وهما السعودية وإيران.
بطبيعة الحال كان لهذا كله جذوره اللبنانية الخاصة، فليس للرأسماليةِ الخاصة قوة تشكيل دولة لا تـُخترق، بشكلٍ عام في المراحل كافة، ولكن الآن كان التأثرُ والانعكاسُ تصادميين بقوةٍ في النسيج الإسلامي أكثر منه صراعاً بين المسلمين والمسيحيين كما كان في السابق، أي أنه يجري حسب إيقاع الدولتين النفطيتين ومساراتهما السياسية واختلافهما المذهبي وصراعهما. إنه صراعٌ طائفي بين المسلمين بدرجةٍ أساسية. وصار المسيحيون تابعين للصراع الإسلامي، مثلما أن التجارَ صاروا تابعين للنفط.
كان لبنان يعيشُ سابقاً على إيقاعِ صراع المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، التحرري والتابع، كما كانت تذكرُ مصطلحاتُ ذلك الزمن، التي تعكس مرحلة نمو الرأسماليات الشرقية القومية ومحاولاتها بناء ذاتها في مواجهةِ التدخل الأجنبي.
الآن حدثت درجة من الانفكاك لدول كثيرة في الشرق عن الرأسمالية الحكومية المعادية للغرب بشكل حاد، فالعديد من الدول العربية انتقلت من هذه المركزية الصراعية والشمولية إلى درجات من الانفتاح، من التبعية الكبيرة للغرب إلى درجاتٍ من الاستقلال.
لقد اصطفت الشمولياتُ الشرقية عبر تاريخ لبنان السياسي في كياناتٍ صغيرة وجاءتْ الشمولياتُ الدينية الجديدة في تكوينين كبيرين.
الماركسيون والقوميون والناصريون والبعثيون يمثلون شموليات قديمة وجدتْ نفسَها في كتلٍ صغيرة مُفتتةٍ عسكتْ الزمنَ القديمَ وأشباحَهُ الكثيرة، فانسابتْ وراء القطب المذهبي الكبير المشرقي غير المؤيد لديمقراطية الغرب والحداثة. وهذا كله تعبيرٌ عن المسار البيروقراطي الجماعي لكل تلك الدول المشرقية الاستبدادية التي غربتْ والتي لم تغرُبْ بعد، في عدائِها الضيق للغرب ولتخلف استغلالها للجمهور العربي كذلك واعتمادها على أجهزة الدول القمعية.
التنظيمان الشموليان المذهبيان الجديدان اللذان عكسا دولتي النفط البارزتين في المنطقة استقطبا الكويكبات السياسية المنفلتة في الفضاء اللبناني بعد انفجارات الكواكب السوفيتية والبعثية والناصرية.
ولم يقدمْ حزبُ الشمولية الشرقية النفطية السنية شيئاً متجاوزاً للماضي، فهو يقدمُ أفكاراً شبحية ديمقراطية، ولايزالُ يعكسُ البرجوازية التجارية المشدودة للخارج، العاجزة عن إنتاجِ وتجميعِ الشظايا من الفئات الوسطى لتشكيل برجوازية صناعية – تقنية – علمية متجذرة في الأرض.
صحيح إنه أقرب لديمقراطية الغرب لكن عبر الشعارات، وتحتاج هذه الشعارات إلى تأصيل.
لكن هل يستطيع حزب تشكل بين ليلة وضحاها أن يعبر عن طبقة مفتتة وضعيفة؟
كذلك فإن تحالفاته لا تختلف عن تحالفات الزمن القديم والزمن الجديد فهي تكتيكية، وهي تحتاجُ إلى تعميق ذواتها وتوسيعها مع القوى الأخرى عبر القسمات الرئيسية للحداثة وهي العلمانية والديمقراطية والعقلانية، بحيث تنتج وعيا وطنيا مغايرا لماضي الضيعات المقسمة، فيظهر المواطن اللبناني الحر العلماني، وهي مسألة ثقافية طويلة، مثلما يتم تجاوز التجارة كمصدر رئيسي للاقتصاد.
صحيفة اخبار الخليج
19 يونيو 2009