المنشور

الرأسمالية الحكومية البولندية

في وسط أوروبا عبرت بولندا عن الانسحاق بين العمالقة الكبار، فهي تواجه روسيا من الشرق وتواجه ألمانيا من الغرب، ومن التخلف الإقطاعي راحت تشكل تجربة نهضوية صناعية بعد الحرب العالمية الثانية. ومرة تغزوها ألمانيا الهتلرية وتلغيها من خريطة التاريخ ومرة تغزوها روسيا (الاتحاد السوفيتي) وتقتطعُ منها أقاليم، ثم تغزوها بشكل كامل بعد الحرب العالمية الثانية.
وبين الأرثوذكسية أو الماركسية في الشرق وبين الهتلرية والبروتستانتية في الغرب حافظت بولندا وجاراتها الأخريات على الكثلكة كهوية دينية مغايرة للجيران الكبار الأقوياء.
وحين تمت السيطرة عليها من قبل الاتحاد السوفيتي شهدت تطورها الصناعي الكبير، لكن المتوقف بعد فترة، والمقولب حسب سيطرة أجنبية، ومن هنا تصاعدت المشاعر القومية الكبيرة المحبوسة.
لكن بولندا دخلت الاشتراكية من خلال السيطرة العسكرية الروسية فلم تنبثق بشكل داخلي عميق، و(الاشتراكية) كما هي في النسخ الشرقية الرأسمالية الحكومية، حيث تغدو الدولة (الرأسمالي الأكبر) تتطور بقوة ثم تتجمد لقوانين اقتصادية داخلية.
بعد الحرب العالمية الثانية تصنعت بولندا وأممت المصانع، وتهمشت الفئاتُ الوسطى وغدا مكان نموها هو دهاليز الدولة الرأسمالية الحكومية، وإذ قدمت حياة تقشفية مسيطرة على الأوضاع الاقتصادية ووسعت أعداد العمال لتغدو عشرة ملايين عامل وأكثر(البلاد تحوي ما يقارب حاليا أربعين مليونا)، حدث لها ركود اقتصادي بسبب تلك الملكية العامة البيروقراطية، وكان الفلاحون قد رفضوا تجربة التعاونيات مما أوجد قوى مالكة مناوئة.
عبرت الكاثوليكية عن وحدة الشعب البولندي وأداة تشكله السياسي، وهو أمرٌ مشابه للكثير من التجارب حيث يقوم مذهبٌ ديني بتشكيل الهيكل السياسي لشعب تم تمزيقه مرات عديدة وألغيت الدولة من الخريطة السياسية بضع مرات.
وكما كانت (الماركسية – اللينينية) هي صيغة تلك الرأسمالية الحكومية البيروقراطية التي طورت تصنيع بولندا بشكل كبير خلال عقدين من السنين، كانت هي كذلك معبرة عن الطواقم البيروقراطية التي فسدت مع غياب الديمقراطية بأدواتها المختلفة.
ولكن الجانب المهم هنا هو تغييب الكاثوليكية وهي الوجه القومي المعبر عن الهوية الوطنية، في ظرف يتم فيه إلحاق بولندا بالسياسة الروسية، والتبعية هذه تمثل جرحا قوميا لهذا الشعب. إلغاء الهوية هنا مزدوج ولكن الهوية تصحو خاصة مع سوء العيش الاقتصادي.
صحوة العمال البولنديين على إيقاع الكنيسة تمثل فشل الماركسية المستوردة التي لم تقدرْ هنا على التغلغل في طبيعة هذا الشعب وتجربته الخاصة، فجاءت كقوالب من الخارج، من دون أن تعطي هذه الكنيسة دورها التاريخي، وتجمع بين الماضي بتراثه والماركسية بتفتحها وقراءتها للواقع.
وبؤرة التحرك تستند دائماً إلى قضايا معيشية، تعبر عن ضعف هيكل الرأسمالية الحكومية وعدم قدرتها على حل مشكلات الاقتصاد، بحيث يتحول العمال أدوات لاستنزافها وهم يعيشون في ظروف معيشية صعبة، ولهذا كان التصادم في (جدانسك) – ورش تصليح بناء السفن – غير سياسي من الناحية الظاهرية، لكنه سياسي بشكل عميق بسبب أن الدولة التي تقول إنها ممثلة العمال والمعبرة عن قضاياهم تقفُ ضد العمال، أي أنها لم تعد تمثل العمال سياسيا، لم تعد دولة الطبقة العاملة.
وكونها دولة بحد ذاتها يعني أنها ليست مع العمال، لأن الدولة أي دولة هي جهاز قهر طبقي، والدولة في الاشتراكية غير موجودة فهي دولة قد ذابت في المؤسسات الاجتماعية، وحينئذ في المستقبل الاقتصادي المتطور تزول الطبقات بفعل قوانين الاقتصاد التقني وثورات الإنتاج الكبرى، أما هنا فهي دولة رأسمالية حكومية لها مسارات التطور الخاصة بكل بلد، وفي بولندا كانت تعكس سيطرة الفئات الوسطى المتنامية داخل هذه الأجهزة، وحيث يحدث الفراق بينها وهي نامية لأعلى، والجماهير الناقعة النازلة في الحاجة والفقر.
هنا تظهر الغيبياتُ وقت الأزمة، يظهر ليخ فاليسا والبابا بولس الثاني، تتداخل المؤامرات السياسية والأزمة الاجتماعية، تتداخل النقابات المناضلة لتطوير حياة العمال مع قيادة معركة الديمقراطية وتطوير الماركسية البولندية كذلك في عملية تاريخية متضادة مركبة.
طرحت نقابات (التضامن) مسائل زيادة الأجور وتحسين أوضاع العمل ثم ما لبثت أن طرحت قضايا الحرية والديمقراطية وحولت تنظيمها النقابي إلى اتحاد مستقل مناهض للاتحاد الحكومي البيروقراطي الذي لم يكن يدافع عن مصالح العمال بل عن الإدارات، ثم انضم إليه عشرة ملايين عامل، وبدأت مواجهات مطولة بين الرأسمالية الحكومية المتجمدة والشعب البولندي عموماً.
إن دخول الكنيسة الكاثوليكية كان مهما لتجميع ملايين العمال في وقت فقدوا الثقة بنقاباتهم الحكومية والاقتصاد العام بتوجهه الراهن، فغدت الكنيسة هي القيادة الفكرية السياسية، وفي ذلك الوقت كان بداية صعود موجة المحافظين الجدد في أمريكا وبريطانيا، الذين دخلوا في عمليات هجومية ضد الاشتراكية (الرأسماليات الحكومية الشرقية) لتوسيع أسواقهم.
قام بولس الثاني وهو المواطن البولندي باحتلال عرش البابوية، فوجه من مركزه دعما قويا لنقابة تضامن، وكان محافظا مضادا للتطورات الديمقراطية في الكنيسة فطرد العديد من المصلحين التحديثيين، وكان ذلك تعبيراً عن العداء الصارخ للماركسية والليبرالية، وكذلك عن محدودية الكثلكة في فهم مجريات الصراع الاجتماعي.
وكان يقول “انّ البابوية عماد السلطة والسلطان وبالإرادة الإلهية المطلقة عبر كلمة المسيح المأثورة لبطرس وعنه: على هذه الصخرة أبني كنيستي”.
وإذ لعبت الكثلكة البولندية دور تقويض الرأسمالية الحكومية الشمولية، فإنها لعبت دور تجديد الماركسية من دون قصد منها، فقوضت النظامَ الدكتاتوري، وخرج حزبُ العمال البولندي الموحد من السلطة وبدل اسمه وأفكاره، وخاض الانتخابات على الأساس الديمقراطي فعاد للحكم.
إن وعي العمال تحول في خضم الصراع الاقتصادي على ملكية الدولة، وعلى الإجراءات التي قام بها ليخ فاليسا قائد (الثورة)، الذي أراد نظاما رأسماليا خاصا يقوض ملكية الدولة العامة التي كانت إنجازا تاريخيا، وأدت قيادته إلى فقدان العمال لمكاسبهم، فأعادوا حكم الماركسيين المجددين الديمقراطيين في بضع سنوات.
بقيت الكثلكة رؤية دينية محافظة بينما ألغت الماركسية البولندية طابعها المحافظ الديني، وتحولت إلى أداة معبرة عن مصالح العمال والشعب، فجددت رأسمالية الدولة الديمقراطية الجامعة بين دور القطاع العام المحوري ونمو الرأسمالية الخاصة مع الارتكاز على مصالح الأغلبية.

صحيفة اخبار الخليج
18 يونيو 2009