لعل واحداً من أبرز المآخذ التي باتت تؤخذ دوليا على (بعض) الدول الشرق أوسطية المعروفة بسعيها المحموم لنيل رصيد جيد وسمعة طيبة على الساحة الدولية فيما يتعلق بتجاربها الديمقراطية الجديدة ومشاريعها الإصلاحية، انها لم تعد تكتفي بتصميم تلك التجارب على مقاسات أنظمتها وحكامها السياسيين فحسب، بحيث تضمن التحكم في سقف العملية الديمقراطية برمته بحيث لا يخرج عن السيطرة غير المرغوبة، بل لطالما لجأت هذه الأنظمة ذاتها تعسفيا الى التزوير أو التلاعب بشتى الفنون والوسائل والابتكارات ليس فقط في إرادة الناخبين والتحكم مقدما في كيفية ادلائهم بأصواتهم الانتخابية، بل حتى اللجوء الى التزوير المفضوح في عمليات الفرز واحتساب الأصوات وإعلان النتائج، دع عنك التضييق على المرشحين في الحملات الانتخابية.
ومما لا شك فيه أن الدول التي تحترم على الأقل ديكور وحدود لعبتها الديمقراطية المحدودة التي فصلتها مقدما على مقاس أنظمتها، لهي أفضل من الدول التي لا تكتفي فقط بذلك، بل بعدم التورع عن تزييف وتزوير إرادة الناخبين أمام مرأى المجتمع الدولي والمجتمع المحلي اذا ما جاءت نتائج الانتخابات ليست كما تشتهي وفق أهوائها التي تروم إليها سلفاً، وبالتالي فإنها تضيف الى فضيحة شكلية تجربتها الديمقراطية ومحدوديتها الأصلية فضيحة أخرى تتمثل في تزوير الانتخابات الدولية. ولعل الأمثلة على نماذج من هذه الدول الشرق أوسطية المتورطة في مثل تلك الفضائح الانتخابية معروفة لدى القارئ وليست بحاجة الى تعدادها أو تسميتها.
لكن وبالرغم من السمعة السيئة للتجارب والمشاريع الديمقراطية الشكلية المحدودة لتلك الدول، وبضمنها الدول التي تملك تجارب ديمقراطية عريقة فإنها تمر بأزمات داخلية متفجرة كلبنان ثمة بقاع يتيمة من الضوء داخل نفق الشمولية جديرة بالتنويه لما لها من دلالات وعبر ودروس لعلها تفتح آفاقا لتطوير الحياة الديمقراطية برمتها في تلك البلدان، أنظمة ومجتمعات ومؤسسات مجتمع مدني.
ويمكننا في هذا الصدد ان نشير الى ثلاثة بلدان في المنطقة قدمت بعض النماذج الإيجابية المشرفة من الممارسة الديمقراطية خلال الأيام القليلة الماضية:
النموذج الأول: يمثله لبنان، ويتعلق تحديداً بالعملية الانتخابية الناجحة التي جرت خلال الانتخابات النيابية الأخيرة بكل سلاسة ونزاهة وشفافية باعتراف جميع الأطراف والقوى السياسية، وباعتراف جل المرشحين لتلك الانتخابات، الفائزين منهم والفاشلين على السواء، وبشهادة أيضا كل المراقبين الدوليين الذين تابعوا وراقبوا العملية الانتخابية بكل مراحلها. ثمة بطبيعة الحال تجاوزات وخروق لكنها بكل تأكيد لا ترقى الى الخطورة التي تمس معظم وجوهر العملية الانتخابية.
وأهمية هذا النجاح لا تقاس عظمته لكونه يحدث في بلد عربي فقط، بل يحدث في بلد لم تزل تعصف به الاصطراعات والانقسامات السياسية منذ خروجه من حرب أهلية طويلة مدمرة دامت أكثر من 15 عاماً.
النموذج الثاني: وتمثله ايران، ويتعلق تحديداً بانتخاباتها الرئاسية الأخيرة التي عصفت نتائجها بحياتها السياسية، فعلى الرغم من كل ما يؤخذ على النظام السياسي الإيراني كنظام ثيوقراطي شمولي يحكمه الملالي الشيعة بزعامة مرشد الثورة الذي يمنحه الدستور سلطات مطلقة بحق التفرد باتخاذ القرارات المصيرية تبعاً لنظرية ولاية الفقيه التي أرسى دعائمها مرشد الثورة الراحل الإمام الخميني، فإن ثمة مزية تحسب لهذا النظام الشمولي الديني بسماحه بالتعددية السياسية في إطار لعبته الديمقراطية المحدودة، بمعنى أنه ليس نظاما شموليا يقوم على حكم الفرد المطلق الواحد مباشرة وفي مختلف الظروف وبفضل هذه المزية أمكن لإيران أن تشهد مرحلة ذهبية من الانفتاح النسبي على العالم والثقافة الداخلية المستنيرة خلال عهد الرئيس السابق السيد محمد خاتمي.
وكان التطور اللافت في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، رغم أنها تمت في أجواء تفتقر للشفافية الكافية والتكافؤ بين المرشحين، هو سماح النظام باجراء مناظرات تلفزيونية حرة (الى حد ما) بين المرشحين المتنافسين، ويكتسب هذا التطور شيئا من الأهمية وذلك بالنظر لما أحدثه من جدل سياسي مجتمعي ساخن مثير إبان الحملات الانتخابية التي جرت في ظل نظام شمولي ظل يحرص على أن يطبع الحياة السياسية بلون سياسي واحد على امتداد ثلاثة عقود وبالتالي فإن هذا التطور يُعد إذا ما أريد له ان يتطور ويخطو خطوة الى الأمام في الممارسة الديمقراطية الصحية لابد ان ينفتح على خيار التعددية حتى في ظل نهجه الشمولي، ذلك لربما أفضى هذا الخيار مستقبلا الى فتح الطريق نحو إحداث نقلة نوعية في الحراك السياسي ودفع الحوار المجتمعي الحر نحو الوعي الشعبي الكامل بإفلاس النظام القائم نفسه برمته وليس إفلاس رئيسه أو حكومته فقط، وبخاصة في ضوء تداعيات الأحداث التي تفجرت بعد اعلان نتائج الانتخابات.
النموذج الثالث: وقد شاءت المصادفات ان يمثل هذا النموذج أكبر بلد عربي وهو في نفس الوقت من أكثر البلدان العربية معاناة في الأزمات والمشاكل السياسية والاقتصادية الكبيرة ألا هو مصر التي ما فتئت تمر بمخاض ولادة ديمقراطية بالغة الصعوبة والمفاجأة انها قدمت خلال الأيام القليلة الماضية نموذجا رائعا للممارسة الديمقراطية الخلاقة من خارج النظام السياسي.
وقد مثل هذا النموذج نادي الزمالك في انتخاباته الأخيرة التي اتسمت بالشفافية والنزاهة التامتين غير المسبوقتين في تاريخ مصر المعاصر وربما التاريخ العربي برمته، وهو نموذج جدير بالاقتداء ليس من قبل الأندية المصرية فحسب بل من قبل الأندية العربية ومؤسسات المجتمع المدني العربي كافة، ناهيك عن النظام السياسي المصري وسائر الأنظمة السياسية العربية، مما يستحق معه بذلك أن نفرد له وقفة خاصة مستقلة.
صحيفة اخبار الخليج
17 يونيو 2009