المنشور

النظام السياسي الإيراني على مفترق الطرق

فجرتْ الانتخاباتُ الإيرانية تناقضات النظام الرأسمالي الحكومي بين فريقي من يَسمون المحافظين والإصلاحيين، جماعة تعملُ على بقاء الامتيازات السياسية والاقتصادية لفريق وجماعة تعمل على إزالة هذه الامتيازات.
وتعطينا شخصيات المرشحين المتنافسين تاريخية حلقات الصراع التي جرت منذ تكوين هذه الرأسمالية الحكومية حتى مفترق الطريق الراهن.
لقد كان مير حسين موسوي مرشح الإصلاحيين هو من مؤسسي هذه الرأسمالية وشكل قطاعاتها الحكومية البيروقراطية، وحاول أن يوجهها للصالح العام، وتـُضاف إليها مؤسساتٌ خيرية كثيرة قامت بدعم الفقراء وأسر الشهداء من قبل الحكومة، حيث كان مشرفاً على قضايا الدفاع عن الجمهورية بمواجهةِ العدوان الصدامي.
لكن هذا النهج السلمي التنموي لم يُعجبْ القيادة العليا، التي كانت تسعى لدولة عسكرية ذات نفوذ كبير في المنطقة، ودولة تعلي شأن القومية الفارسية على بقية القوميات داخل إيران الإسلامية.
كانت هذه نقطة مفارقة كبيرة فرجلُ كرس نفسَهُ لبناءِ القواعد الأولى للنظام، يتمُ الاستغناء عنه ببساطة ويُوضع في الظل.
كان ذلك يعني ان القطاعات العامة الاستغلالية تصاعد نفوذها، ولم تعد الشراكة مع جمهور الأغلبية الشعبية واردة، ولم تعد دولة المساواة بين القوميات والمذاهب ممكنة.
علينا أن نرى أن الفهمَ المحافظ للاثناعشرية تغلب على الفهم الديمقراطي الجنيني فيها الذي ولدته مجرياتُ الثورة الشعبية، فدائماً تؤدي الهيمناتُ الحكومية إلى وجود قوى مستفيدة، خاصة إذا كانت مطولة غير مراقبة، فتقوم الفئة السياسية العسكرية بالتركيز في النصوصية الفارغة من أي مضمون شعبي ديمقراطي متأتٍ من هذا المذهب المناضل، وتنحرف عن تشكيل تعاون بين المذاهب الإسلامية والقوميات كما يُفترض لنضالٍ مشترك ضد الدكتاتورية السابقة، وتحل بدلاً من ذلك دكتاتورية عسكرية في الفرس ثم في القوى السياسية العسكرية المسيطرة في الحكم.
ولا شك أن بعض القوى السياسية المتطرفة في الجانب الفارسي كمجاهدي خلق أو في القوميات المحكومة التي تلجأ للعنف والارهاب، تعطي الحكومة مبررات للصرف المضاعف على الحرس “الثوري” والجيش، وهذا ما أطلق أيديها تدريجياً فغدت شيئاً آخر.
إن الفوائض النفطية الكبيرة تتوجه لمشروعات الحكومة المركزية، وإلى قواها العسكرية والسياسية، وفي البدء كانت المشروعات المدنية هي التي تستحوذ على الفوائض بشكل كبير فلم تشعر الدول المجاورة بخطر من تطور إيران المدني هذا.
لابد أن نرى هنا المؤسسات السياسية وتاريخيتها، فحزب الجمهورية الإسلامية ظهرَ كقائدٍ سياسي لهذه العملية السياسية واندمج في عملية البناء الأولى، وقد رافقتها عملياتُ قمعٍ شرسة لليبراليين واليساريين ولقوى القوميات والمذاهب الأخرى، فتحول إلى حزبٍ دكتاتوري يميني قريب للفاشية، وكتجلٍ للقومية الفارسية الشوفينية، وأدت تصفياته للقوى المعارضة إلى أن يقومَ بتركيز السلطة داخل الأجهزة العسكرية ويلغي ذاته.
وبهذا انتقلَ ثقلُ السلطة إلى المنظمات العسكرية الحكومية الكبرى المتنفذة خاصة الحرس “الثوري”.
هنا اصبحت رئاسة مير موسوي للوزارة الإيرانية غير ذات معنى، لقد وضع السلطة كلها في أيدي العسكر، فلم يعد العسكرُ بحاجةٍ إليه. لقد تجاوزهُ تطورُ النظام نحو العنف لا نحو البناء السلمي والحريات.
ولابد هنا من التذكير كيف قاومت القوى العسكرية الإيرانية التدخل الصدامي الشرس وعمل موسوي وغيره من القادة الإيرانيين على تصعيد دور المنظمات العسكرية لمواجهة هذا التدخل.
كذلك كانت التهديدات الأمريكية والإسرائيلية عاملاً آخر في تصعيد دور القوى العسكرية في نظام يعرضُ نفسه بصورة المهدّد دائماً والمحاصر.
فصارت القوى العسكرية هي الرابحة من كل هذه الصراعات والمواجهات وخلقت ثقافة النظام المحاصر، فوجدنا الحزبَ الجمهوري الإيراني يتوارى ويصبح شبحا سياسيا.
إن ترويج ثقافة النظام المحاصر استمراراً لثقافة الطائفة المغبونة المحاصرة، والمبعدة عن إرثها وحقها، وتشكيل ذلك عبر الأحزان والمخاوف من القوميات والطوائف الإسلامية الأخرى، هي ما كان يركز فيه النظام بدلاً من ثقافة الأممية الإسلامية والنضال المشترك والبناء السلمي والديمقراطة الحقيقية وليس الديمقراطية داخل نظام دكتاتوري محكم، رغم أن الانتخابات الأخيرة أظهرت قدرة الناس حتى على اختراق الثغرات الصغيرة في هذا النظام العسكري المحكم.
إن اختفاء مير موسوي هو تعبيرٌ عن انطفاء مرحلة، ومجيء خاتمي محاولة مدنية جديدة لاختراق الجدار العسكري الشمولي من دون فائدة.
لقد تعملقت الرأسمالية الحكومية باتجاه القيادة المركزية للحرس ولشركاته وتنفذه في كل شؤون المجتمع، وكان من مصلحته عيش الحكم على حافة الهاوية، فكان لابد له من أخطار، لقد ذهب خطر صدام حسين فكان لابد من اصطناع خطر آخر، بل مجموعة من الأخطار لبقاء الامتيازات العسكرية – السياسية – الصناعية موجودة لديه.
وفي محمود أحمدي نجاد ظهر الحاكم الفعلي لإيران وهو القوى العسكرية، وفي مشروع القنبلة النووية ظهر الرمز الآخر للتحدي ولإبقاء المجتمع على حافة الهاوية والحصار والرعب.
إن تصعيد الحرس إلى هذا المستوى لابد أن يؤدي إلى أخطار جسيمة على الشعب الإيراني والمنطقة، كنظيره النظام الكوري الشمالي ومشروعاته.
وفي كل هذا المناخ المشئوم لابد أن تستفيد إسرائيل من هذه الظروف وسوف توجه ضربة عسكرية قاسية لهذا النظام وحينذاك لن ينفع الندم فتظهر “خدماتها الجليلة” للنظام الدولي العاجز.
أما قدرة الشعب الإيراني على مواجهة نظام عسكري دكتاتوري فتبقى محدودة، كما كان الأمر مع النظام العراقي السابق.

صحيفة اخبار الخليج
16 يونيو 2009