المنشور

سلطة الدم في مجتمع قبلي ومتخلف

الأحداث الدموية المنتشرة في باكستان لن تكون المحطة الأخيرة ولن يستطيع احد اختزال الوقت بالسرعة المتوقعة في مجتمع من النمط الإسلامي الباكستاني، حيث الملايين تعيش حالة من الاضطراب والفقر والضياع واليأس والغضب. هذا الشعور المختلط يلمسه كل مراقب للواقع الداخلي، وان كانت المحاولات الرسمية تسعى لتقديم صورة عاجلة للإعلام بدت وردية كالعادة، ولكن مؤشرات الدم ستكون دائما دليلا على تنوع الأمكنة لعمل سري عنيف سيطول أمده ولن تحله التقنيات العسكرية المتطورة ولا القدرات الأمنية في البلاد، فمن بين الملايين سيندس الإرهابيون لنشر الذعر وحصد أرواح الناس بالمجان دون اعتذار! تدفع اليوم باكستان الثمن باهظا لكل جراحاتها المختلفة، فقد ورثت مع تقسيم شبه القارة الهندية ظواهر سياسية معقدة منها الظاهرة السياسية بتقسيم كشمير، وظواهر سياسية أخرى كالانقلابات والحكومات العسكرية المستمرة، ومكونات سياسية – اجتماعية عززت في التربة الداخلية كل مظاهر التخلف، كالظاهرة القبلية وتسلطها المتجذر في مجتمع شبه أمي ومتعصب قبليا لفكرة رد الدم بالدم. لم تستطع كل الحكومات المركزية المتعاقبة التعاطي معه بجدية نتيجة المشاغل الأخرى وللانشغال السياسي بالظاهرة الكشميرية. بعد نصف قرن اكتشفت باكستان محنتها العميقة، في عصر وقرن مهتم بمكافحة الإرهاب وبحقوق الإنسان والديمقراطيات وتعزيز قيم الحريات التي اصطدمت بكل تلك الحالة الداخلية المعقدة، والتي وجدت نفسها على تصادم وتناقض بكل المظاهر الحضارية والثقافية العالمية، فكيف ستجد حكومة آصفي نفسها تتعامل مع الواقع الراهن بعد هجومها العسكري على منطقة سوات؟ سؤال تكمن فيه الإجابة، إذا ما حاولنا تفكيك ذلك السؤال السهل في منطقة جغرافية معقدة سياسيا وقبليا. لقد عاشت دولة داخل الدولة، والتي لم يكن لها رئيس ولا تمثيل ولا علم خاص بها اسمها دولة وزيرستان، حيث القبائل وزعماؤها وبنادقهم المعلقة على أكتافهم، يحكمون تلك المنطقة بحرية كاملة، ولم تكن إلا على تماس بسيط بالحكومة المركزية، إذ عاشت تلك المناطق المعزولة على هواها وتعبرها قافلات التهريب لكل أنواع الممنوعات من أسلحة ومخدرات وبضائع، بل ونجح الجهاز الأمني والعسكري طوال حقبة تلك الحكومات الانقلابية المتعاقبة على التعاون مع «دولة القبائل تلك» دون أن تفكر إطلاقا بتطوير تلك المنطقة ولا تحديثها، فعاشت على نماذج اقتصادية متخلفة، مكتفية ذاتيا بما تنتج من زراعة ورعي، فدارت في حلقة التخلف إلى جانب التعليم الديني والقيم البالية، والتي أحكمت سيطرتها باسم الدين تارة وباسم التقاليد والقيم تارة أخرى، ما جعل القبيلة والدين يلتقيان، محاولة المؤسسات العسكرية إبقاء تلك المنطقة «وزير ستان» مرتعا لمهربي وتجار الأفيون والمخدرات التي أحاطت تلك الجغرافيا الواسعة من أفغانستان ووزير ستان، حتى امتد نفوذها لكل أفغانستان وباكستان. اليوم تصحو حكومة آصفي بعد ميراث شريف ومشرف وهي تستمع إلى كل ألوان التعاويذ السياسية، وكل ألوان المؤثرات الفكرية والعقيدية المرتبطة بنموذج القاعدة، حيث تنتشر حركة طالبان الباكستانية في وزير ستان وحركة طالبان الأفغانية في موطنها الأصلي، غير أن الترابط العقائدي والسياسي والجغرافي بينها ملحوظ تشوبه روح من التعاون الجهادي، إلى جانب تنظيم القاعدة التي تتخذ من حزام وزيرستان مقرا لها. ذلك البيت السياسي الكبير للقاعدة وسقفها الدائم وموطن حمايتها منذ أن هزمت حركة طالبان في أفغانستان وجاءت إلى السلطة حكومة كرزاي تحت حماية القوات الأمريكية. بعد ما يقرب من ثماني سنوات من فشل حكومة بوش القضاء على تلك الحركات «الجهادية» في تلك «الدولة المشاغبة المدعوة وزير ستان» كان على حكومة آصفي أن تعد حكومة اوباما بأن تعمل جهدها بتصفية ذلك الملف على وجه السرعة، متناسية أن الضربات الجوية لن تكون قادرة إلا على حسم جوانب عسكرية كالمقرات الرئيسية في سوات وغيرها، ولكن جيوب الخلايا والحلقات التنظيمية المحكمة، فإنها بحاجة إلى وقت طويل لاجتثاثها، فمثل هذا النوع من التنظيمات تمرس على كل أشكال وفن العمل السري، مثلما كان لديها امتدادات في الجسد الأمني الباكستاني، وعرفت كيف تبني لها خيوطا في المدن الرئيسية وتكون على استعداد لكل أشكال الأعمال التكتيكية الإرهابية. لهذا لن تستطيع الطائرات تصفية الصراع بتلك السهولة، مثلما لن تكون تلك الخلايا متحصنة في سوات المركز، لكونها تدرك أن مساحتها هي وزير ستان وعمقها داخل باكستان وأفغانستان. فهل بإمكان الطائرات وقصفها الجوي القدرة على إنهاء صراع طويل، صراع عسكري من الفضاء، كل نتائجه هو جعل السكان تفزع من بيوتها وتهرب نحو المخيمات السيئة. عملية تفجيرات بيشاور ولاهور وغيرها من أعمال صغيرة هنا وهناك، لنشطاء وإرهابيي طالبان الباكستانية كرسائل قوية ردا على قصف الجيش لمناطقهم، وفي الوقت ذاته رسالة لمؤيديها «بأننا هنا» قادرون على المواجهة بطرق أخرى.
 
صحيفة الايام
16 يونيو 2009