المنشور

الديمقراطية الطائفية

مصطلحان متناقضان لا يلتقيان كل منهما يلغي الآخر.
لكن كيف تركبا معاً وهما في هذا التضاد؟
هي عملياتٌ استخفافية بعقول شعوب المنطقة فلا هي ديمقراطية ولا هي وطنية، تكحيلٌ من أجل العمى، مهرجاناتٌ وهيلمانات من أجل صعود جماعات جديدة من الانتهازيين والنصابين تنضم إلى الدول العاجزة عن التطور الديمقراطي.
هي عملياتُ تمزيق للشعوب والدول فهي تزدادُ عداءً وتباعداً، وتتفجرُ مناطقها النائية بالحروب، كبداياتٍ لزحفها نحو المدن، أو تغدو حروباً ارهابية داخلها.
ديمقراطية الحل السحري.
ديمقراطية الغد المأمول.
لكن على الأرض أشياء مختلفة، عمليات نخبوية معينة من الجماعات الطائفية لتكون في صف الدول، فتحدث رشى لها، وتنفصل فئات الفساد والوصولية عن قواعدها الشعبية الطائفية، فتبحث القواعد عن قادة متطرفين جددٍ بدلاً من أن يتم التركيز في تصفية الوعي الطائفي، وعي التنظيمات الطائفية، وهو وعي يمثلُ تاريخ فساد الدول الدينية في العصور الوسطى الذي تحكم في إنتاجهِ الملوكُ والخلفاءُ والأمراءُ والدعاة السريون وركزوه في أشكال محافظة متيبسة لا ترى صراعات الأرض ولا تمثل الأغلبيات المحرومة، فيتمُ استيرادُ وعي تم إفسادهُ قديماً لكي يُصلح حاضرا فاسدا.
الوعي الطائفي هو تمزيق للعاملين بدرجة أساسية لأنهم المتضرر الأكبر من بث هذه الأشكال الدينية المحافظة التي تعود للماضي غير الديمقراطي.
فهو تشكيلُ المؤسسات الجديدة على أمراض الماضي، وصب السوائل الملونة في المواعين الخربة.
في دول سمحت بالعمل السياسي الديمقراطي العلماني طويلاً كالمغرب تكونُ الأخطارُ أقل ضرراً، لأن النسيجَ الوطني التوحيدي يمنعُ الانفلات والتشطر الوطنيين، ورغم أن المغرب خاض ويخوض حرباً مع البوليساريو على قضية تبقى معقدة، ولديه موارد محدودة، وهناك بقايا إقطاعية قوية في السلطة، فإن شعبه لم يتمزق كشعوبِ المشرق، بفضل تلك الحريات السياسية الطويلة نسبيا، التي تشكلتْ بفضلِها نخبٌ سياسية وثقافية واسعة ديمقراطية، تختلفُ في كل شيء لكنها لا تختلف في الحداثة والعلمانية والوطنية.
تقودُ الديمقراطية الطائفية إذًا إلى نقائضِها وأهم نقائضها هي الدكتاتورية.
فمع استفحال الخلافات الاثنية والمذهبية والاقتصادية وانزلاق الصراعات إلى استقطابات طائفية تنشرخ الخريطة الوطنية إلى دويلات كما يحدث في الديمقراطية الطائفية العراقية، ولا تعود الناس المتعطشة للإصلاح والديمقراطية بمتحمسة لنظام مليء بالقلاقل، وهذا عادة ما يقصده المتطرفون.
فالجماعاتُ الانتهازية الطائفية التي صعدتْ إلى المؤسسات السياسية ليست لديها برامج اجتماعية فهي لا تقوم على رؤيةٍ طبقية، وهنا الفيصل، كأن تمثل العاملين أو المالكين، أو الرأسماليين أو الفلاحين، بل هي تمثلُ هوية طائفية تقوم كما قلنا على وعي العصور الوسطى المحافظ الممثل لقوى الاستغلال المتخلفة.
لا يعرف الملالي ماذا يمثلون ومن يخدمون.
لا يعرف الملالي عمقَ الإسلام وانتماءَهُ إلى الأغلبيةِ الشعبية العاملة من دون هوية طائفية.
إنهم عاشوا على استغلالِ الناس الممزقين المتنابذين وعلى عطايا الدول وبهذا يعجزون عن إنتاج وعي إسلامي ديمقراطي، ويعجزون عن إنتاج وعي وطني لكل دولة إسلامية، ويعجزون عن التعبير عن الطبقات سواءً كانت فقيرة أو غنية عبر صراع ديمقراطي مطور لا مدمر.
وحين صار التوحد الوطني لمجابهة الاستعمار ظهر غيرهم ليقوم بهذه المهام الجسام، فلماذا لم يكونوا هم في الطلائع؟
ليست هذه ألغازا ولكنها سببيات التاريخ والواقع الصلدة.
إن الديمقراطية الطائفية بتصعيدها مثل هذه التيارات توسع الأزمات وتعمق الخلاف وتفكك البلدان، وقد رأينا كيف سار العراق الذي وحدته الملكية الإصلاحية بمستوى محدود، ثم وحدته الجمهورية بمستوى محدود، لكن الملكية والجمهورية كلتيهما لم تصعدا العراق إلى مستوى دولة علمانية ديمقراطية وطنية، وراحتْ النخبُ السياسية المجترة على هذه الشعارات تحرقُ بعضَها بعضا مما أعاد العراق للفسيفساء الطائفية ليتوغل فيها أكثر وأكثر حتى صار خرائط من النار والدماء.
تغدو الدولُ المحارَبة من قبل التيارات الطائفية بعد سنوات من الصراع المحتدم أكثر قبولاً عند الناس من هذه التيارات، فيضيعُ عملـُها عبثاً.
الأسباب لا تعود لعظمة إنجازات هذه الدول لكنها تمثل للناس شيئاً من الوجود السلمي غير المضطرب، ولكون الشعوب قد ناضلتْ موحدة أمامها وكرستْ فيها إنجازاتٍ وطنية قبلتها هذه الدول بحكم النضال والتاريخ.
لكن التناقضات تتشكل، فبدلاً من زيادة شعبية الجماعات الطائفية تحصد الفشل وتراجع المؤيدين، وتتفجر الانقسامات الداخلية فيها.
لماذا تزداد الانقسامات بين الطائفيين؟ لماذا تظهر جماعات جديدة باستمرار ترفض القديمة، ويحدث هذا في الجزائر، وتظهر جماعاتُ القاعدة وطالبان في باكستان رافضة المذاهب السنية التقليدية وتتنطعُ للقيادة عبر تسميات سياسية غير موجودة في التاريخ الديني؟
هل هي مصادفات أم ظواهر لها سببيات؟
ليست لديهم قواعد دينية صلبة، إنما هي لُعَب سياسية وغايات دنيوية دنيا، فيقوم زعيمُ الجماعة المفصول أو المحجّم بتشكيل جماعة أخرى تزايد على الأولى لتظهر أخرى وأخرى.
وهكذا كان أمرُ المتلاعبين بالدين قديماً، أهداف شخصية تتخفى تحت لافتات دينية، وما أكثر انشقاقات الخوارج، وكلما طمحَ قائدٌ شكلّ جماعة الزرق والخضر والبيض!
ولهذا فإن قوانين التنافس الشخصي تفعلُ فعلها بين الجماعات الطائفية المعاصرة، وتلعب رشا الدول وتدخلات الأجهزة الاستخباراتية دورها في إنتاج مثل هذه الانشقاقات والمزايدات التي تتنامى حتى تصل إلى المذابح.
إن الوعي الشعبي هنا مُغيب، لقد أُدخلَ في هلوسة دينية سياسية عبر شحن عاطفي حاد، فتداخلت فيه الرموزُ الدينية المقدسة بقضايا العيش ونقد الدول وسيطرة الشلل السياسية، فلم يعدْ قادراً على الفهم الفاصل بين ما هو مقدس رفيع وما هو سياسي انتهازي.
لم يجعل تطوير عيشه عبر نقاباته واتحاداته وثقافته الشعبية التي هي السبيل لتمييز ما هو حق وما هو باطل.
التمحور حول الذات الطائفية المتشنجة، هو المنتج لزيادة الكوارث السياسية، فتغدو الديمقراطية الطائفية ميدان السباحة في عالم الانشقاقات.
ولكن الديمقراطية غير هذا، هي وحدة الشعوب وصراع بين برامج عيش واقتصاد وتطوير أسواق وعمالة وثقافة وترسيخ لوحدة الأوطان والشعوب رغم الاختلافات.

صحيفة اخبار الخليج
15 يونيو 2009