مستقبلُ الرأسماليات الحكومية الشرقية هو حاضرُ الغرب الرأسمالي الراهن المتوجه للاشتراكية، فهو جدلٌ اجتماعي كوني عبر عقود السنين.
هناك اشتراكية علمية وهنا اشتراكيات خيالية.
فنحن نصعدُ لبلوغ مستوى بلغهُ غيرنـُا منذ زمن بعيد، لكن نحن نسرع الخطى في الزمن ونتخطى السلالمَ والدرجات، مرة نسقط بقوةٍ ونكسرُ ما نصعدُ عليه، ومرة نتعلمُ ونمشي بحذر.
وبهذا فإن البرامج الخيالية كافة في تجاوز الغرب والقفز عليه هي برامجُ القفزات الحادة والعسكرية التسريعية وتشكيلُ أنظمةٍ فاسدةٍ تخافُ من الديمقراطية والرقابة، وتخصصُ الثروة وتعممُ المشكلات والفقر، التي تعود لمراجعة نفسها ببطء وبصراعات ضارية مكلفة.
فهل رأينا أنظمة الغرب تراجع نفسها وتترك البرلمانات والصحافة الحرة وتبحثُ عن سبلٍ أخرى أم أنها تعزز هذا النهج بمزيدٍ من التطوير فيه؟
في حين اننا وجدنا أنظمة الرأسماليات الشرقية تغيرُ من أبنيتها الاجتماعية الكلية وتنسفها بين لحظة وأخرى، وما كان مُحرماً من الملكية الخاصة ومذموماً يغدو هو حجر الزاوية في البناء الاقتصادي التالي.
وذلك بسببِ أن لا شيءَ راسخاً وثابتاً فيها من هياكل اقتصادية ومؤسسات ديمقراطية.
وحكم الحزبُ الواحد يتحول إلى تعددية فوضوية وحروب أهلية.
ويغدو هذا تجريباً في لحم البشر، ففي فترات يُعتبر الناس مشبوهين ومقبوضا عليهم ومدانين ومعرضين للتعذيب، ومختفين عن الأنظار، وفي فتراتٍ أخرى تـُعتبر حرياتهم مُصونا وحياتهم ثمينة، والأنظمة والحكام لم يتغيروا كثيراً، مما يجعل الماضي محشوراً في الحاضر.
وتنطلق الرأسمالياتُ الحكومية ذات الصبغات الدينية في اناشيد صاخبة للقضاء على الأخلاق الفاسدة ومنع الموبقات والاجهاز على الحرام، لكن ذلك لا يجد له سبيلاً من التطبيق، ففي الأعلى طابق من الشعارات والدعايات عن الأخلاق العظيمة وفي الطوابق السفلى تنتشر الموبقات والفساد.
لأن الأخلاق لا تتشكل بأوامر من الإذاعات ومن قوى السلطات.
وبسبب أن الحرام والفساد والجرائم تعششُ في البناء عامة وبسبب الفقر واختلال توزيع الثروة، وعلى سوء الرأسماليات الغربية فقد قامتْ على جدلٍ سياسي واسع يكشفُ هذه المناطق ويطورها عبر عشرات السنين، ووصل الأمر إلى أن اصبحت المدن حدائق والمناطق المؤبوة محددة وضيقة وتجارية مبتذلة.
وإذا حدث أن تـُركت القطاعات الخاصة تنمو بحرية في الشرق الرأسمالي الحكومي فهي حرية نسبية خاضعة للسيطرة الحكومية، وقد رأينا في تجارب دول مثل اليابان الاستمرارية في النظام وتصعيد منجزات الصناعة والثقافة بحيث غدت هذه التجربة الشرقية مُعممة على دول عديدة، فغدت الديمقراطية متسعة في كل شؤون الحياة من تكوين البرلمانات الحرة وانتخاب السلطات من القمة حتى القاعدة.
في حين اعتمدت رأسماليات الشرق الحكومية على إنتاج المواد الخام الثمينة وخاصة النفط والذهب، ولم تستطع أن تطور قوى الإنتاج بشكل كبير، لأن نظام رأسمالية الدولة يعجز عن ذلك، ولا يترك الأسواق تتطور، ولا يدع الحريات تنمو بشكل مستمر.
سوف يأتي زمن تنفد الموادُ الخامُ الثمينة ويتوقف إنتاجُ النفط وتنضبُ المناجم، وإذا لم تطور هذه الأنظمة قوى الإنتاج البشرية، عبر التوجه للاقتصادات الحديثة، ويصبح البشر قوى إنتاج متقدمة، فسوف تنهار اقتصاداتها وأشكال وجودها السياسية، فتتمزق إلى دول متصارعة وتنشب الحروب الأهلية.
الخيار واضح: فإما أن تنقل الدولُ الاقتصادَ لقوى القطاعات الخاصة والعامة المحكومة بالإرادة الشعبية وإما الضياع.
لأن القوى البيروقراطية تأكلُ أغلبية الفوائض التي توزع على الحاشيات ودوائر البذخ وعلى مشروعات خارج البناء الاقتصادي المنتج، وبعدئذ لن تكون هناك فوائض بهذه المستويات.
وليست متابعة الدول الشرقية للدول الغربية في أنظمتها سوى عملية لتجنب مثل هذه الكوارث.
لكن هل هي تطبقها بشكلٍ مدروسٍ حقيقي أم زائف؟ هل تأخذ بعض الديكورات الخارجية أم هي تطبق الجوهر واللب من تلك الأنظمة المتقدمة؟
أغلب الأحيان هي تنقلُ ديكورات كما يجري الأمر في أغلب هذه الدول، والديكورات لا تخلق تغيرات عميقة.
إن تعبيرات الإصلاحيين والمحافظين ليست نتاج علاقات فارغة، ولكنها تعود للصراعات في القوى الحاكمة.
المحافظون هم المسيطرون على الهياكل الرأسمالية العامة في هذه الدول، ولا يقبلون بالتجديد والتغيير، ويصطنعون تعبيرات متعددة فيها دغدغة لمشاعر البسطاء، كما يفعل أحمدي نجاد في الانتخابات محتفظاً بالرئاسة، وهو معبر عن العسكريين والبيروقراطيين الحكوميين المسيطرين على هذه القطاعات العامة.
في حين ان الإصلاحيين يريدون زعزعة هذا التحجر وتغيير الاقتصاد بحيث لا تحتكره الحكومة، ولكنهم ضعاف لأن السيد رفسنجاني الليبرالي الديني هو تاجرُ فستق وليس صاحب مصانع كبيرة.
وهذا يجري في معظم الدول الشرقية، فالسيطرة على الشركات العامة والوزارات هي مشكل الأسواق والثروات، وهي سبيل تؤدي إلى توقف تطور الإنتاج كذلك وعدم الغنى فيه لأنه يعتمد على التنوع والمنافسة وتطوير البضائع، وليس على توسع العمل غير المنتج والإدارات المتضخمة والعائلات الفارغة من أي إنتاج حقيقي.
لا تستطيع قوى الشرق الحكومية أن تطور البضائع، فالنفط الخام لا يحتاج كثيراً إلى تطوير، لكنها عاجزة عن صنع ساعة دقيقة، قد تصنع الأحذية والثياب، لكن صنع الأجهزة الدقيقة يحتاج إلى تطور كبير في السوق والتعليم وتطور الكفاءات وتوسع الفئات العمالية التقنية المتطورة.
وخواتيم تاريخ الرأسماليات الحكومية تحدد بسبب نضوب المواد الخام، وهنا تأتي السكتة القلبية، فتحتاج الأنظمة إلى إعادة تكوين البناء الاقتصادي برمته، ووقف الاسراف، وبيع المؤسسات العامة، ووقف المعونات للداخل والخارج، ووقف التوظيفات الحكومية.
وتتحدد برامج السكتة القلبية هذه بمدى حضور القوى السياسية الممثلة للقوى الاجتماعية المختلفة، التي تغيرُ البناءَ الاقتصادي حسب مصالحها، فإذا كانوا ورثة في الأجهزة نفسها أو كانوا قوى شعبية فإن الأمور مختلفة ويتشكل البناء الجديد حسب هذا الحضور.
صحيفة اخبار الخليج
14 يونيو 2009