الغلو والاعتدال صنوان للحالة الاقتصادية السوسيولوجية السائدة في الزمان والمكان المحددين لأي مجتمع من المجتمعات الإنسانية المعاصرة. وتحت سطح هذه الحالة الاقتصادية السوسيولوجية، تكمن عناصر إسناد تفريعية أخرى مثل المعتقدات والموروثات والعادات والتقاليد وخصال الناس وطباعهم.. الخ. وبهذا المعنى فإن من البديهي أن يتربط الغلو والتشدد بالجهل والجمود التطوري وبضمنه الفكري (والسياسي بالتبعية)، والانغلاق على الذات وعدم التواصل مع الدوائر الحضارية الخارجية الواقعة خارج البوتقة المتقوقعة للجماعة البشرية الصغيرة المنعزلة. بينما سيرتبط الاعتدال حتماً بالوعي الاجتماعي والمجتمعي العام وبمستوى التقدم والتحضر الشامل الذي بلغته الجماعة البشرية المقيمة في أية بقعة من بقاع الأرض الواسعة. وإنه لما كانت البنى التحتية بما تحتويه من قدرات وإمكانات اقتصادية ومقومات نهضوية شاملة ومستدامة، هي التي تحدد عادة، بحسب قوانين التطور الاقتصادي والاجتماعي، مستوى تطور البنى الفوقية بما هي سياسة وأدوات ووسائل ممارستها، وقوانين، وثقافة وفنون ونحوها، فإن الكثير فيما يتعلق بخاصيتي الغلو والاعتدال الاجتماعيتين، سيكون مرهوناً بدرجة التطور الاقتصادي المحققة والسائدة في المجتمع المعني. بيد أنه مثلما أن لكل قاعدة شواذها، فإن هذا يحق بنفس الدرجة على علاقة الارتباط الجدلية بين البنى التحتية والبنى الفوقية. فقد يحدث أن تفك البنى الفوقية رابطتها مع البنى التحتية، فتتطور الأخيرة آخذة مسار نموها الطبيعي، فيما تركن الأولى إلى الجمود تحت وطأة العامل الذاتي الممانع لحركة تطورها اتساقاً مع حركة تطور البنية التحتية. ولعل هذا ما يفسر إقبال البنى الفوقية في ديارنا العربية على نتاجات علاقات وقوى الإنتاج الرأسمالية المصدرة من مراكز الرأسماليات المتقدمة إلى الأطراف في صورة سلع رأسمالية واستهلاكية وتكنولوجيا وفنون إدارية وتسويقية، وفي ذات الوقت التمنع عن قبول موازياتها من مخرجات حصيلتها الفكرية الإنسانية من قبيل الديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها من المبادئ والقيم التي أضحت كونية الطابع. ولعلي أزعم هنا أن مرد ذلك إلى سيادة سطوة الاستبداد بمستوياته المختلفة، العقائدية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتي تتمحور حول نفي الآخر وعدم الاعتراف به (وإلغائه إن لزم الأمر)، مع أن هذا يقع على تضاد شديد مع جوهر تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف التي تنبذ الغلو والتزمت والتشدد. والحال أن الغلو والتشدد كانا لصيقين دائماً بعمليات التحول الديناميكية الكبرى في الحياة العربية الإسلامية منذ فجر الحضارة العربية الإسلامية وبدء نهضتها العارمة، وإن كانا ارتبطا أيضاً في بعض المراحل التاريخية بحالات الركود السياسي والجمود الفكري التي شهدتها الدولة العربية والإسلامية على مر العصور، بما في ذلك عصرنا الراهن. وقد لعبت الفرق الإسلامية، الدينية والعقائدية والمذهبية والطائفية، التي تعاقب ظهورها وانتشارها منذ قيام الدولة الإسلامية، دوراً في إخراج مظاهر الغلو والتشدد، بمزايداتها اللامتناهية. فهي لم تشق الأمة وتُشظِّيها إلى طوائف ومذاهب وأحزاب تتصارع فيما بينها بصورة مدمرة وحسب، وإنما هي عملت على الحيلولة دون تقدمها وتطورها وتلاقحها مع كافة مكونات الحضارة العالمية، وذلك من خلال الحجر على قيمها الإيجابية العليا وتغييبها لصالح مخترعات هرطقاتها التي تبتغي التمييز الجاهلي للواحدة عن الأخرى في توافه الأمور. وإنه لما كان الانغلاق على الذات والتقوقع داخل ملكوت يقينياتها التي لا يأتيها الباطل من أي حدب وصوب، فإن من المنطقي بمكان أن يفضي الانغلاق المذهبي إلى غلو مذهبي، والانغلاق الطائفي إلى غلو طائفي، والانغلاق العقائدي إلى غلو عقائدي، والانغلاق القومي إلى تعصب قومي، والانغلاق الفكري إلى تشدد وتطرف فكري، وهكذا دواليك. والعكس صحيح، فالانفتاح العقلي والفكري لقادة حركة التنوير العربية، مثل الإمام محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وعبدالرحمن الكواكبي وطه حسين وغيرهم، هو الذي جعل منهم قامات تحررية وتنويرية سامقة، وعطائهم الفكري خلاقاً وإبداعياً بحيث وضعهم في مصاف أعلام الفكر والتنوير العالمية ذات الإسهامات العظيمة في الحضارة الإنسانية. وفي الإطار، فإن هذا الانفتاح العقلي والفكري هو بالضرورة قرين خاصية الاعتدال، فكلما كانت الشخصية منفتحة على الآخر كلما كانت أكثر استعداداً للتعاطي معه بأريحية واتزان نفسي ومعنوي نابعين من ثقة عالية بالنفس وبالموقف المستند إلى حصة معتبرة في رصيد الحضارة العالمية المتراكم عبر العصور، ومن إمكانات معرفية وعلمية قديرة ومقتدرة لا تتوجس ريبة أو خيفة من التعاطي مع أي مستجد أو استحقاق مهما كان مصدرهما أو عَظِم شأنهما. فهل الشخصية العربية معتدلة بطبعها أم أنها تميل إلى الانفعال والحدة ومنهما إلى التصلب والتشدد؟ صحيح أن المنابع الرئيسية لتشكل الشخصية تكاد تكون واحدة، مثل الموروث الديني وموروث التاريخ وأحداثه، والموروث اللساني، والموروث الثقافي بما في ذلك العادات والتقاليد، إلا أن الصحيح أيضاً أن هنالك مكونات موضوعية أخرى تمارس تأثيراتها المباشرة على التكوين والتشكيل العام للشخصية العربية، من قبيل نوعية التضاريس التي تشكل جغرافية البلد المعني، ودرجة التطور الاقتصادي والاجتماعي، والبيئة المحيطة، وتفسر، بالتالي، التفاوتات في أمزجة الشخصية العربية ونظرتها للأشياء والحوادث المحيطة. وهذا ما يدعونا للتحفظ على الزعم المقرر بوجود شخصية عربية واحدة متناسقة ومتماثلة الهوى والنزعات حتى وإن كانت مشتركاتها تجب اختلافاتها. وهذا الاختلاف هو الذي يفسر ميل بعضها للاعتدال وبعضها الآخر للتزمت والتشدد. بيد أنه وللأسف الشديد، تبقى السمة الغالبة على مكونات الشخصية العربية، هي التشدد. وهذا ينطبق على الأنظمة السياسية وعلى الأنظمة الاجتماعية بنفس القدر. فالأنظمة السياسية بشقيها الحاكم والمعارض تميل إلى التشدد أكثر من الاعتدال، والأنظمة الاجتماعية تميل بالإجمال إلى المحافظة الذي هو أقرب إلى التشدد منه إلى الاعتدال. ولكن بالمقابل، فإن الموضوعية تقتضي القول بأن التردي المريع الذي تشهده الأوضاع المعيشية وأوضاع حقوق الإنسان والأوضاع السياسية على كافة الأصعدة العربية والعالمية، لا توفر أية فرصة للاعتدال لكي يأخذ مجراه الطبيعي، بقدر ما تغذي التطرف وتذكي العصبيات ليس في مجتمعاتنا العربية وحسب وإنما على مستوى العالم أجمع.
صحيفة الوطن
13 يونيو 2009