توجه نحو 46 مليونا من الإيرانيين بمختلف مكوناتهم الإثنية والقومية يوم أمس الجمعة 12 يونيو/حزيران إلى صناديق الاقتراع لانتخاب رئيس جديد في الانتخابات الرئاسية العاشرة منذ تأسيس ‘’جمهورية إيران الإسلامية’’ (على إثر ثورة بهمن الشعبية في سنة 1979)، اتسمت الانتخابات هذه بحملاتها الدعائية الملونة -غير المسبوقة- المتعلقة بمشاهد لم تكن مألوفة ومسموحا بها من قبل! تميزت الانتخابات هذه -فيما تميزت- بحماس منقطع النظير من قبل المواطنين، خاصة قطاعي الشباب والنساء وأيضا بتراشق وحِدّة وصلت حد الإهانات الشخصية والاتهامات المتبادلة لبعضهم البعض من قِبَل المترشحين الأربعة، وخاصة ‘’نجاد’’ نفسه الذي لم يتردد في استخدام موهبته الديماغوجية ‘’الغوبلزية’’ إلى أقصى حد ممكن (نسبة إلى غوبلز وزير الإعلام الهتلري)، مدركا في قرارة نفسه أنها معركته الأخيرة، فإما النجاح والبقاء -بأي ثمن- أو الاندثار السياسي وانتهاء سياساته حيث بدا مستفيدا من وضعه الرسمي المتحكم في وسائل ‘’الميديا’’ الرسمية -المرئية خاصة- التي انحازت بوضوح تام، ساعية لنجدته من ناحية الترويج والتلميع له، كونه مازال -شكليا- في منصب الرئيس المنتهية ولايته، الأمر الذي لم يرضِ بالطبع المنافسين الثلاثة الآخرين، حيث اضطروا للانسحاب من المشاركة الأخيرة في التلفزة بسبب ضيق المساحة والوقت المخصصين لهم مقارنة بحصة الأسد المخصصة لنجاد.
تبدو الانتخابات الإيرانية الحالية في الواقع انتخابات إقليمية (شرق أوسطية) بكل معنى الكلمة؛ وذلك بسبب تنامي الدور الإيراني الإقليمي والدولي. فالفصل الأول منها حُسم الأسبوع الفائت في لبنان حينما خسرت كتلة 8 آذار بقيادة حليف إيران الأكبر في المنطقة ‘’حزب الله’’ الذي تحجم دوره إلى 9% من مجمل القوى السياسية اللبنانية. أما الفصل الحالي، فسيتقرر بعد يوم غد الإثنين أو بعد أسبوعين فيما إذا كان سيعاد انتخاب نجاد (قد يُفرض كرئيس مرة أخرى حسب بعض المحللين المتشائمين) السند الأساس لحزب الله، حيث ستستمر سياسة المجابهة والتحدي. أم أن المعتدل’’ موسوي’’ سيُنتخب.. حينئذ لابد أن تقل درجة العضد الإيراني لحزب الله إلى حد ملموس (هذا ما قاله بوضوح موسوي)، الأمر الذي يعنى أن هذا الحزب قد خسر خسارة مُركبّة في أقل من عشرة أيام.
لم يحدث من قبل أن تفككت النخبة السياسية الحاكمة في إيران منذ ثلاثين عاما وانشطرت إلى هذه الدرجة من التناثر! وهذا بالطبع يدل على الأزمة المتعددة الوجوه الذي يعانيه المجتمع الإيراني المعاصر من جراء نظام فريد من نوعه في العالم، سيادة دولة ثيوقراطية في الألفية الثالثة، المتسمة بالتحولات العصرية والديمقراطية في عموم العالم، وكأن إيران تسبح عكس التيار ومتواجدة خارج العصر تماما. هل سيقول الشعب الإيراني كلمته غدا- تحديدا- بعد يوم غد الإثنين، ويحسمها من الجولة الأولى لصالح المترشح المعتدل الإصلاحي ‘’ مير’’ حسين موسوي ‘’مير’’ سابقة لفظية تعني بالفارسية (الحكيم/الرزين) بقوة رافعة عنصر الشباب والنساء وكثافة المشاركة المأمولة؟ يعتقد كثير من المراقبين أن الشعب الإيراني قد قال كلمته عندما شكل موجة بشرية امتدت لمسافة 20 كيلومتراً وهي مكسوة باللون الأخضر (الرمز الانتخابي لموسوي)، اكتسحت شارع ‘’الولي’’ القاطع للعاصمة الإيرانية من الشمال إلى الجنوب، المشهد الذي أصاب السلطات بالذعر الشديد، وجهت على إثره إنذارا شديد اللهجة لأتباع ‘’موسوي’’ من مغبّة التحضير لثورة مخملية!
لنستعرض باختصار شديد ‘’الفرسان الأربعة’’ الذين تأهلوا للتنافس على منصب رئيس الجمهورية بواسطة ‘’المشخال الإسلامي/المذهبي’’ من أصل 475 (433 رجلا و42 سيدة) مواطنين مترشحين للمنصب! فالرئيس الحالي (المنتهية ولايته) ‘’نجاد’’ الذي لقب نفسه بمحبوب الشعب (حسب موقعه الكتروني) والمتسم بالبساطة، الزهد والتقوى كان شخصا مغمورا تقريبا قبل ,2005 ولكنه أضحى الآن شخصية سياسية معروفة بتحديه للغرب وإسرائيل وبتصريحاته العجائبية، مع ‘’هالة’’ الكريزما الشعبوية التي يملكها (أو يدعيها)، لم يتوانَ من اتهام خصومه بأكثر الألفاظ غضاضة إلى درجة إلصاق صفة الهتلرية/النازية بهم، الخصلة التي إن وجدت في إيران، فإنها ستكون أقرب إليه من أية شخصية قيادية أخرى. المترشح الثاني للرئاسة، زميله المنافس والأقرب إليه فكريا وعقائديا ‘’محسن رضائي’’ وإن كان قادما من مدرسة ‘’نجاد’’ العقائدية المحافظة، فإنه يدعو إلى برنامج اقتصادي من خلال شعاره محاربة الفقر والغلاء من باب تحرير الاقتصاد، والغريب أنه لا يتحدث عن ‘’الحريات العامة’’ التي تعتبر المفتاح السري لهذه الانتخابات، خاصة للطبقات المتوسطة، بعد الحاجة المعيشية لعموم الناخب الإيراني.
أما الشيخ الإصلاحي’’ مهدي كروبي’’ فإنه كاد أن يتأهل في انتخابات ,2005 حيث كان الفارق بينه وبين ‘’نجاد’’ 2 من 10 (عُشرين 5,19 – 19 ,3)، حين قرر أن يستقيل من جميع مناصبه الرسمية في يونيو/حزيران من السنة نفسها، بعد أن اتهم السلطات بالتزوير لصالح ‘’نجاد’’. يعتبر ‘’كروبي’’ إصلاحيا حقيقيا، صريحا، مبدئيا ومخلصا، أقرب إلى المصطلح الإصلاحي من ‘’موسوي’’ الذي يعتبر معتدلا أكثر منه إصلاحيا. ولكن مما يؤسف له أن هذا الشيخ العفيف يتحرك في الوقت الضائع، فيما يتعلق بعمره المتقدم نسبيا وعمامته ‘’الرمز’’ التي لا سوق لها الآن لدى الجيل الجديد من الشعب الإيراني!
وأخيرا المرشح المفضل لدى غالبية الإيرانيين ‘’مير حسين موسوي’’ ليس بالضرورة حباً فيه، بل كرهٌ للمؤسسة الحاكمة عامة وسلطة نجاد خاصة. فالمهندس والفنان ‘’موسوي’’ البالغ 67 عاما والمتقن للغات أربع بما فيها لغته الأم ‘’الآذرية’’ (الفارسية/الآذرية/الإنجليزية/العربية) له حظوظ أكثر من غيره كونه الحصان المرهون عليه، خاصة من قبل الجيل الجديد وإن كان يشكو من مشكلتين سلبيتين، أصوله الآذرية وميله الفني وحبه للجمال الذي يعتبر في نظر المتزمتين الدينيين نقيصة، بالإضافة إلى عدم أفضليته لدى ‘’الولي الفقيه’’ (كما يبدو) .. على أن نقاط ضعفه المحدودة هذه لا تقارن بنقاط قوته العديدة، سِجلّه الحافل أيام كان رئيسا للوزراء إبان الحرب العراقية الإيرانية، دماثة خلقه وتواضعه الجم مع الناس، علاقته الطيبة مع أغلب التيارات ومزايا عديدة أخرى فطرية ومكتسبة تؤهله كلها أن يكون الرئيس القادم لإيران .. إن لم تحدث أمور لم تكن في الحسبان!
صحيفة الوقت
13 يونيو 2009