كان مجتمعاً بلا دولة مركزية لقرون، وكان جبلاً للهاربين من عسف الدول الاستبدادية في المشرق، ثم تشكلت فيه الدولة بعمليات قيصرية.
الشيعة يهربون من عسف، والعلويون يهربون من اضطهاد، والدروز يصعدون إلى ذرى الجبال، والمسيحيون يتخفون ويحتمون به من عسف الدول التي تدعي الإسلام.
وحافظ السنة على مركزهم المتوحد بالدول المسيطرة في ومضاتٍ من التاريخ فوجدوا لهم قوة في المدن الرئيسية والعواصم.
ثم جاء الأرمن من مذابح في بلادهم عساهم يجدون الأمان في بلد الحروب.
ثم سيطر الغربيون وتلاعبوا بهذه التشكيلة الطوائفية وربطوها بعواصمهم السياسية. فاستثمروا خلافات الطوائف حتى الطوائف المسيحية شتتوها، وهم أهل الحداثة والعلمانية.
في الحرب الأهلية تصارع المعسكر الاشتراكي مع المعسكر الغربي.
لم يكن ثمة أمل في انتصار البروليتاريا على البرجوازية ولا الفلسطينيون على اللبنانيين، ولكنها عملية تجريبية في أجساد اللبنانيين، لنظرية الصراع بين الطبقة العاملة وحلفائها من المجانين الفلسطينيين والبرجوازية الكتائبية العميلة للاستعمار!
عقدٌ من المذابح وأكثر من ستين ألفا من القتلى، ثم عادت الأخوة اللبنانية.
ولو أن الجبالَ تحاربتْ لعقلت.
ثم صار لبنان الآن ساحة حرب بين المعسكرين الجديدين: معسكر الشرق الاستبدادي ومناصريه ومعسكر الشرق الليبرالي (على خفيف) ومناصريه من الغرب.
وفي كل لحظة قد ينزلق المعسكران للمحرقة ثانية من دون أن يعدا تماماً ضحايا الحروب السابقة.
الآن صارت قضية فلسطين من ضمن الاهتمام الكبير للشرق الاستبدادي لكي يحررها من براثن الصهيونية.
قضية حق أريد بها باطل، مسألة مكررة، لكن الشعوب العربية تؤيد سلاح حزب الله، لأن الأنظمة العربية غدت ذليلة وجبانة أمام الصلف الإسرائيلي، رغم أن لبنان صار ساحة الضحايا.
ولكن لماذا يتعرض لبنان وحده للخراب؟ لماذا لا يعمل اللبنانيون على أن تكون مهمة تحرير الاراضي العربية من مهمات الدول العربية الأخرى كذلك؟ لماذا لا يُنشطـّون مثل هذه السياسة؟ لماذا يكونون دائماً الصدى؟ لماذا لا يكونون الصوت؟
لعل حكومة وحدة وطنية حقيقية تحقق هذا البرنامج وبرنامج التغيير الاقتصادي لصالح أغلبية الشعب اللبناني تكون مهمة بعد هذا المخاض.
وفي حالة تخاذل الدول العربية، واستمرار الصلف الإسرائيلي، وضعف الضغط الأمريكي على إسرائيل، يغدو سلاح حزب الله مهما، فعلى الأقل لا تبدو كل هذه الأمم العريضة ساحة خالية من الشجعان.
الرابح كالخاسر فوق رقعة شطرنج متغيرة لا مبادئ فيها، وقد أوغلت جماعة 8 آذار في التحالف مع الأنظمة الشمولية التي خسرت أغلب أسهمها لدى الشعوب من دون أن تكون الجماعة الأخرى ممثلة لشيء متجاوز وديمقراطي عميق.
وإذا حدث أن تغير المعسكران المهيمنان في المنطقة فسوف يتغير الحلفاء والأعداء في توليفة جديدة تحددها مصالح جديدة لا أحد يعلمها لأنها لا تقوم على حقائق الجماعات والطبقات بل على حراك الفئات الوسطى والقوى المحافظة في استغلالها للعاملين الذين لا يعرفون مصالحهم بعد وهم أدوات لغيرهم وليس لأنفسهم.
ومن هنا فلا تراكم سياسيا ديمقراطيا، فالفئات الوسطى لا تتطور لتغدو طبقة وسطى لها مصالحها في المصانع والمتاجر، فهي شتات متجمع منخور من كل جهة، توالي أنظمة مختلفة شكلاً متحدة مضموناً ليس فيها ما هو طليعي ممثل للحداثة والديمقراطية.
فئات تتكون من مقاولات سريعة فتصير قوى قيادية.
فئات عاشت على الرشوة السياسية وظهرت فجأة ذات شعبية.
فئات كونتْ تنظيماتها عبر العقود، فمرة كانت فاشية ومرة دينية، ومرات براجماتية.
وهناك البروليتاريا الرثة مشتتة متجهة إلى كل الجماعات تصرخ وتنفعل وتتحارب لقضية ليست قضيتها.
ولو أن الكبار خارج الحدود اتفقوا لتبخر الكيان السياسي واحتاج إلى إعادة نظر بحسب الرياح الإقليمية. ولهذا يبدو اللاعبون اللبنانيون كأنهم يرقصون على سيمفونيات تـُعزف خارج الحدود، وكلما سمعوا مقطعاً تغيرت تكويناتهم.
بطبيعة الحال كانت جماعات 14 آذار أقرب إلى العقلانية السياسية وقيم الحداثة، حتى في انتصارها لم تلجأ إلى المغالاة والاستعراض، ومثلت منحى أقرب لتجذير الوطنية اللبنانية ولكن الفسيفساء الحزبية ظلتْ متحدة على أهداف سياسية وليس على رؤية سياسية فكرية مشتركة يضيفُ لها الزمان ولا يطيرها كالدخان.
إن هذا يتطلب توجهها إلى العلمانية والديمقراطية الاجتماعية والانسحاب التدريجي من عالم المذهبية السياسية والتحزب الديني لتكوين طبقة وسطى عريضة متجذرة في الأرض ومتحدة وممتدة إلى الآخرين، وأن تكرس قيم الوطنية الحديثة لا قيم البيك والباشا وحاكم الضيعة.
كما أن هذا التجييش الصاخب للعامة ولهذه الحارات السياسية المتضادة وطنيا هو أمر خطر، فتكفي بضع شرارات لتحرق بلداً كما حدث حتى في الحملات الانتخابية.
وسيكون المأزق المستقبلي هو نفسه في مثل هذه المعسكرات الحزبية الضيقة التفكير، وسوف يتعطل الحكم وتحدث مصادمات ومشكلات تجعل البلد يكرر نفسه بلا خروج حقيقي من الأزمة.
صحيفة اخبار الخليج
12 يونيو 2009