لم يَعُدْ لنا بيت. جاءَ الغرباءُ وأخذوه.
كان بستاننا هنا، وبحرنا الذي نسبحُ فيه، وشاطئنا الذي نصطاد عليه.
لم يعدْ لنا شاطئ ولا سمك، والقوارب تكسرتْ على القوارب.
نتذكرُ بأسى كيف كنا، عائلة واحدة، فريقاً ملتحماً يصطاد معاً، يتبادل صحونَ الأرز في الأزمات، نتسلف من بعضنا، نأخذ المياه من عين واحدة.
لم يعدْ لك حيك، صار أشبه بجهنم الدولارات والصفقات والسلع والغرف التي تـُؤجر في كل لحظة وتخلى في اللحظة التالية، وهو حي البضائع السرية المهربة، تخرجُ من غرفتك في الفندق أو غرفتك في الدواعيس الرثة لتجد أن مدينتك خطفوها، أين ذهبت عاصمتي ومدينتي وأمي؟
لغات بعدد سكان الأرض، رثاث من الخلق وسوق فوضوية، وكراجات تضرب جدران رأسك الذي تحول إلى جمجمة، وكان الأب يعدُ ابناءه بمستقبل شفاف سعيد، ويقول لهم ستكون هذه الأرض لكم، وكبرنا ووجدنا الأرض تـُسحب منا، ونحن سلع في المزادات، وأدوات حديدية صدئة في مشاغل رثة.
بيتنا سُرق منا، ولم نعدْ نعرفُ جيرانـَنا، وذهبَ رجلٌ (مناضل) لحيهِ القديم يجمعُ الأصوات للانتخابات، وطرقَ بابَ بيت رفيقه الذي عاش سنوات الطفولة والصبا معه، وعلمهُ بعضَ الكلمات، طرقَ الباب ليسأل عن رفيق يعاونه في الوصول لكرسي الهيلمان، فوجد أن الصديق مات منذ سنين، بعد أن امتلأ بأمراض غريبة.
خرج أولادُ الصديق غاضبين!
حارتنا سُرقت، أولاً سرقوا النادي منا، ذلك النادي الذي كانوا يقيمون عليه المسرحيات الفكاهية الجاذبة للناس، وكان مثل التلفزيون الوطني يبث الحكم والقصص، فيتداول الرجال والنساء قضايا الحداثة ومشاكل الواقع، وكانت جرائده الحائطية مكتوبة بعشرات الأيدي، وبعدها يصيرُ الصغار رسامين وكتاب قصة وحالمين بالأمل الأخضر.
بعد أن خطفوا النادي خطفوا صدورَ المراهقين التي امتلأت بالدخان فراحوا يسبحون في بحر الإبر والعروق المفتوحة على الجروح والسموم، يغرزون في سواعدهم الرقيقة الأنصال، ليشبع تجار لا يشبعون، ويعودُ المناضلُ ليسأل: أين ذهب شاكر؟ أين ذهب سالم؟ أين ذهب عمار؟ أين.. أين!؟
فيقولون له يعطيك طول العمر، رحلوا وتركوا الدنيا الفانية!
فيصرخ كلهم كانوا شباباً!
يجيبُ من بقي على قيد الحياة ولم تزلْ في لسانهِ مضغة شجاعة: هل رأيتَ كيف جاعوا، وبحثوا عن العمل ولم يجدوه، وتسكعوا طويلاً، وجلسوا يثرثرون أزماناً، فاصطادتهم شبكاتُ الهوى والنوى؟
حين يعود المناضلون ليجمعوا الأصوات لا يعرفون أزقتهم، أزقتهم التي خطفها الدرزي والحلاق وتاجرُ الإبر والملا وتاجر العقارات وتاجر النعوش والأضرحة.
بعد أن خطفوا النادي وعقولَ العصافير الصغيرة خطفوا المصائدَ والقواربَ وتراب البحر النقي، والقواقع، وحكايات الربابنة والبحارة، والمرفأ الصغير الذي كان متحفاً للطائرات التي سقطت بين الحورة والقضيبية، والدواليب الملأى باللوز والبراحات الملأى بالحكايات وعشاق الليل والأقمار.
خذ الآن ما شئتَ من قمامةٍ ومن شعراء بلا ألسنة نسوا الصراخ والكلام، ومن أبطالٍ مُرممين بقش، ومن متهالكين على الكراسي/المآسي.
خذ الآن ما شئتْ من براميل مليئةٍ بالبقايا والهدايا والشيكات، والذكريات المحروقة ولكن لن تجد الكهول الذين حفظوا أشعار الأولين، والفرق الشعبية الصاهلة بغناء الوطن والنسوة الحرفيات اللواتي كن يصنعن الأكلات والحلوى، ويبعن في الطرق دون أن يتعرضن للحبس والأحجار.
لن تجدَ امرأتك فقد تيبست من الولادات وتربية الأطفال وتسليم ضلوعهم لتجار الممنوعات.
لن تجدَ المجالسَ المليئة بالحكمة والسوق المليئة بالأسماك الطازجة القادمة من السواحل، ومن المصائد الجالسة على مرمى حجر.
لن تجدَ أهلكَ الذين تواروا من التلوث والمطابخ والأسعار العالية والطوفان الأجنبي، وهجمت عليهم الأدخنة والغازات والسرطانات والدماءُ البيضاء.
بعد أن خطفوا النادي والصغار والساحرات الطائرة في السماوات والأحلام خطفوا العقولَ التي كانت واعدة بالطيران نحو المريخ واكتشاف العلاجات للأمراض الاجتماعية والجلدية والروحية.
صار الشباب ممغنطين موجهين للآخرة، أو للقبور، مسحورين أو شبه مسحورين، يكتبون الجوامع والتمائم، ويهذون ويحلون المعادلات الخرافية للقرن الثاني الهجري، أو يتخدرون طوال اليوم بأعشاب.
لم يعد لي بيت، خطفوا بيتي.
استولى الأغرابُ على بيتي، فلجأت لمدينتي فوجدتهم خطفوا مدينتي، فذهبتُ إلى أصدقائي فوجدتهم خطفوا أصدقائي.
كلّ حجر فيه كان من معاشي وكلماتي، وكلّ قطعة فيها سُقيت بدمائي، لكن الأرضَ هربتْ من يدي، وراحتْ تبحرُ خارج خليجي، كلّ يومٍ تمشي بوصة جديدة وتسحبُ أولادي، وصراخي يتعالى: أعيدوا لي وطني!
صحيفة اخبار الخليج
11 يونيو 2009