لا يبدو ان كلا من السلطة الفلسطينية والدول العربية هما في وارد الاهتمام الجاد بملاحقة اسرائيل قضائيا على الساحة الدولية على جرائمها ضد الانسانية، ولاسيما ان اكثر العرب معنيون بهذه القضية الا هم الفلسطينيون مشغولون حتى النخاع بانقساماتهم السياسية والفصائلية التي مازالت عقبة كأداء في انهاء الانقسام على السلطة والخروج بتوافق يفضي إلى قيام حكومة وحدة وطنية واعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية كمرجعية اساسية لكل الفلسطينيين في الداخل والخارج وكممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني وهي المرجعية التي جرى تغييبها على امتداد اكثر من 15 عاماً، وفجأة تذكرتها قيادة السلطة الفلسطينية في رام الله وجعلتها شرطاً من شروط المصالحة مع “حماس” أي أن تعترف بها هذه الاخيرة كمرجعية وكممثل وحيد للشعب الفلسطيني، في حين ان قيادة السلطة نفسها لم تتورع عن الانفراد بتشكيل حكومة فلسطينية جديدة بزعامة سلام فياض من دون الاحتكام للمنظمة وفصائلها التي عارضت تلك الحكومة، ومن دون انتظار انتهاء مفاوضات جلسات الحوار الوطني، الأمر الذي يضاعف من تعقيدات وتأزيمات هذا الحوار المتعسر ضد بعضهما بعضاً وباشرا الاعتقالات المتبادلة والحرب الاعلامية المتبادلة، ولم تحل الذكرى الـ 42 لنكسة يونيو 1967م المشئومة التي انتهت باستكمال الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين كاملة (احتلال القدس وكامل الضفة الغربية وقطاع غزة) دون مواصلتهما ذلك الاقتتال العبثي المجنون والصراع على السلطة. يحدث ذلك فيما تمر الساحة العربية على الصعيد الرسمي بأسوأ حالاتها التاريخية انقساماً وتخاذلاً وتخلياً عن القضية الفلسطينية. أما على الصعيد الشعبي فتمر الساحة العربية ذاتها بحالة غير مسبوقة من العجز والتفتت وتعاظم الانشغالات بالقضايا المحلية.
فهل تواتي القيادات الفلسطينية بعد اليوم، أي بعد هذا الاصرار على ممارسة هذا العبث الجنوني اللامسؤول بحق قضية شعبهم، الشجاعة للوم أي تقصير أو تخاذل عربي بحق قضيتهم؟ ثم ماذا تريد الانظمة العربية المتخاذلة عن القضية الفلسطينية أفضل من هذا الوضع الداخلي الفلسطيني لتبرير تخاذلها؟
ولعل من المفارقات المؤلمة في الوضع العربي والفلسطيني المأساوي الراهن ان جهات وقوى دولية غير عربية تبدو أكثر اهتماماً من العرب والفلسطينيين بفضح جرائم العدوان الفاشي الصهيوني على أهالي غزة، فمثلما نددت قوى ومسيرات احتجاج عالمية حاشدة ابان ذلك العدوان بالصمت والتخاذل العربيين، ها هي اليوم تنبري قوى ومنظمات دولية مختلفة لفضح جرائم الابادة الصهيونية في غزة، وللمطالبة بملاحقة الجناة وامتثالهم أمام العدالة الدولية. فبالأمس القريب وقف أحد القضاة الاسبان موقفا مبدئيا شجاعا حينما رفض بحزم مطالبات المدعي العام الاسباني وضغوط شخصيات اسرائيلية وقوى صهيونية لوقف مواصلة التحقيق في بعض جرائم اسرائيل خلال عدوانها على غزة. كما رفض هذا القاضي ضغوط كارلوس ديفار رئيس المحكمة الاسبانية العليا بوقف التحقيق، ولاسيما ان المتهمين في هذه الجرائم وزراء وجنرالات اسرائيليون كبار، مثل وزير البنى التحتية السابق بنيامين بن اليعازر، والجنرال دان حالتوتس قائد القوات الجوية السابق، والجنرال دورون الموغ قائد المنطقة الجنوبية، وجيورا إيلاند رئيس مجلس الأمن القومي، ومايكل هرتزوغ المسؤول بوزارة الدفاع، وموشيه يعالون رئيس اركان الجيش الاسرائيلي، وابراهام ديشتر مدير الإدارة العامة للأمن.
وفي أوائل مايو الماضي صدر تقرير للأمم المتحدة يؤكد تعمد اسرائيل القصف التدميري على مؤسسات الامم المتحدة والمدنيين الفلسطينيين وانها ارتكبت جرائم حرب فظيعة، وهو التقرير الذي ارتعدت فرائص اسرائيل منه. واقامت الدنيا على اثره ولم تقعدها رغم صدوره بلهجة ملطفة ومخففة لكي لا يجرح أحاسيس ومشاعر الدولة العبرية.
وها هي منظمة دولية جديدة، ألا هي منظمة “إيه. سي. دي. إن” المعنية بجهود نزع أسلحة الدمار الشامل في العالم يصدر عنها تقرير، قبل أيام قليلة من وصول بعثة لجنة حقوق الانسان إلى غزة، يرجح استخدام الجيش الاسرائيلي اليورانيوم المنضب خلال حرب اسرائيل على غزة. وبطبيعة الحال لم تصل المنظمة المذكورة الى هذه النتيجة اعتباطاً، بل بناء على عينات اخذت مسبقاً من تراب وغبار غزة حيث ثبت بعد تحليلهما احتواؤهما على مادة مشعة مسببة للسرطان والتشوهات في البشر. كما وجدت في هذه العينات جسيمات من “السيزيوم” وهي مادة مشعة ومسرطنة، بالإضافة إلى مركبات متطايرة من “في. أو. سي” وهي جسيمات دقيقة تشكل خطراً على الصحة وخصوصاً الاطفال وكبار السن والمصابين بالربو. وعثرت في العينات كذلك بعد تحليلها مختبريا على فوسفات ناتج عن اكسدة الفوسفور الابيض.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا بناء على كل المعطيات المتقدم ذكرها: اين الدور الفلسطيني والعربي رسميا وشعبيا من استغلال وتوظيف كل تلك الجهود والمتابعات الدولية نحو تعزيز فرص ملاحقة مجرمي العدوان الاسرائيلي على غزة لتقديمهم امام ساحة القضاء الدولي كإرهابيين؟ ام ان الفلسطينيين والعرب في ظل كبواتهم وانقساماتهم المحزنة سيضيعون هذه الاوراق المجانية التي تحت ايديهم مثلما ضيعوا الآلاف من الاوراق المماثلة التي تدين اسرائيل وظلت مطوية في الارشيف؟
صحيفة اخبار الخليج
10 يونيو 2009