ونتابع هنا تحليل خطاب الرئيس أوباما في القاهرة وهو خطاب مثير ومهم، وقد قلنا كيف أن الرؤية الليبرالية الإنسانية تسودُ فيه وتتركزُ في إنشاء تحالف سياسي بين القوى الحاكمة الجديدة في أمريكا والقوى السياسية الحكومية المرنة والقوى الليبرالية العربية الإسلامية.
ويجسد ذلك تحياته للمؤسسات الدينية المنفتحة كالأزهر وجامعة القاهرة والإشادة بالحضارة العربية الإسلامية ومنجزاتها العلمية لا السياسية، ولبعض الرموز السياسية الموقعة اتفاقيات السلام المنفرد مع إسرائيل، واستخدام آيات قرآنية تدعو إلى السلام.
وكل هذه الاستخدامات السياسية والثقافية تستهدف تمتين المقولة الأساسية في هذا الخطاب وهي خلق علاقة سلام مع العالم الإسلامي، وبالتالي توسيع المؤيدين لتفكيك بؤر التوتر وشبكات الارهاب والعنف، وإطفاء نيران الحرائق المشتعلة في العراق وافغانستان وفلسطين، وجذب مختلف الفئات الشعبية والوسطى لعلاقة تحالف تؤدي إلى المساهمة في ذلك الاطفاء وتعزيز النمو الاقتصادي.
وتتمثل توصيفاته لعلاقات الصراع بين المسلمين والغرب في النص التالي:
“… إننا نلتقي في وقتٍ يشوبهُ توترٌ كبيرٌ بين الولايات المتحدة والمسلمين حول العالم، وهو توتر تمتد جذوره إلى قوى تاريخية تتجاوز أي نقاش سياسي راهن. وتشمل العلاقة ما بين الإسلام والغرب قروناً سادها حسن التعايش والتعاون، كما تشمل هذه العلاقة صراعات وحروباً دينية. وساهم الاستعمار خلال العصر الحديث في تغذية التوتر بسبب حرمان العديد من المسلمين من الحقوق والفرص، كما ساهمت في ذلك الحرب الباردة التي عومل فيها كثير من البلدان ذات الأغلبية المسلمة بلا حق كأنها مجرد دول وكيلة يجب عدم مراعاة تطلعاتها الخاصة، وعلاوة على ذلك حدا التغيير الكاسح الذي رافقته الحداثة والعولمة بالعديد من المسلمين إلى اعتبار الغرب معاديا لتقاليد الإسلام”.
تـُوضع مسألة التوسع من كلا الجانبين الإسلامي والمسيحي للجانب الآخر في علاقة تجريدية عامة، فلا تـُدرس مسألة (الاستعمار) كعلاقةٍ خلقتْ الإشكالية الصراعية بين الجانبين المسلم والغربي، التي تتواصل بسبب حماية الغرب لحكومات عربية إسلامية تابعة له، وتحدث فيها اختلالاتٌ كبيرة في الثروة، فــُتنتجُ عمليات تغيرٍ محدودة وصراعات غير محلولة وإشكاليات طائفية وعنفية مختلفة.
ولم تكن المسألة محصورة في مساهمة “الاستعمار في تغذية التوتر بسبب حرمان العديد من المسلمين من الحقوق والفرص” بل بسبب بناء شبكة علاقات اقتصادية وسياسية وثقافية تؤبد التبعية والهيمنة وقد أدت إلى تلك الاختلالات الكبيرة السابقة الذكر.
وتجسد ذلك بصورة أخرى في مساعدة الصهيونية على صناعة بلد محتل وعلى حساب شعب آخر طرد وسحق.
ولكن الرئيس أوباما من جهة أخرى عرض جوانب إيجابية على سطوح هذه العلاقات الصراعية، حيث ان بؤرة الخطاب تتوجه لمجابهة عدو مشترك للجانبين وهو قوى الارهاب والدكتاتوريات العنيفة، وهو أمر مهم وضروري لكلا الطرفين، وقدم قائمة طويلة من الحلول السياسية الراهنة.
لكن الرئيس أوباما يصور قضايا العنف وصعود الارهابيين كنتيجة لأخطاء عرضية ويقلل من مساهمات حكومات الولايات المتحدة السابقة في دعم هؤلاء وتحولهم إلى شبكات واسعة، وهو يقول بهذا الصدد:
“لقد استغل المتطرفون الذين يمارسون العنف هذه التوترات عند أقلية صغيرة من المسلمين بشكل فعال. ثم وقعت أحداث 11 سبتمبر 2001 واستمر هؤلاء المتطرفون فى مساعيهم الرامية إلى ارتكاب أعمال العنف ضد المدنيين، الأمر الذي حدا بالبعض في بلدي إلى اعتبار الإسلام معادياً لا محالة ليس فقط لأمريكا وللبلدان الغربية وإنما أيضا لحقوق الإنسان. ونتج عن كل ذلك مزيد من الخوف وعدم الثقة”.
لكن تشكلت شبكات كبيرة قبل تلك الأحداث وأدت سياسات الشمولية والتفقير ونهب ثروات المسلمين من قبل الشركات والأنظمة إلى جعل هؤلاء المتطرفين يغدون أبطالاً.
إن المسألة ليست مسألة مجموعة صغيرة.
ولهذا يجب توسيع مثل هذا التصور إلى مدى أوسع لتعميق العلاقة التعاونية بين قوى السلام في الجانب العربي الإسلامي والجانب الأمريكي.
إن كون الحلول سياسية هو أمرٌ تفرضه هذه اللحظة، فهي لا تتعدى إلى جذور الصراعات السياسية الكبيرة، ولهذا فإنه يقدم صورة أمريكا الليبرالية الإنسانية لا صورة أمريكا المحافظين وقادة المجمع العسكري – الصناعي والصقور عامة، والصورة الليبرالية التي يقدمها تظل راهنة مؤقتة مُشكلة من قوى الصراع الحالي في الولايات المتحدة، وقد تتغير مثل هذه الصورة ويعود المحافظون، ولهذا فإن مساعدة الرئيس أوباما على هزيمة المحافظين العنفيين على الجانب الآخر، أي في العالم العربي الإسلامي هي مهمة كذلك لتحجيم المحافظين في أمريكا نفسها.
وتكمن هنا مفارقة غريبة ففي الوقت الذي هـُزمت فيه مؤقتاً قوى العسكرة والتدخلات والهيمنة على موارد النفط في أمريكا، تقوت قوى المواجهة العسكرية والعنف والدكتاتورية في العالم الإسلامي، وفجرت مشكلات العنف بصورة لم يسبق لها مثيل حيث يتعرضُ الآلاف للقتل كما أن مشروعات العسكرة وتطوير قوى القتل والصواريخ تهدد بجعل المنطقة مقبرة واسعة، ومن هنا تكمن أهمية مبادرة الرئيس أوباما ونشاطه في كلا الجانبين؛ ففي الجانب الأمريكي يطبق برنامجه الانتخابي ومشروعاته لتقزيم التطرف والعنصرية وهو حاكم هناك لكنه غير مطلق فقوى المعارضة اليمينية قوية ومازالت تعرقل الكثير من إجراءاته، في حين انه في العالم الإسلامي يدعو سياسياً وفكريا، وأغلب أدوات الحسم عند غيره، وخاصة قوى اليمين العسكري، والمحافظين الكثيرين.
وهكذا فإن عملية تطور الديمقراطية والسلام والعيش الآمن للملايين تعتمد على قوس كبير من القوى الرسمية المرنة والشعبية الواسعة واستنهاض جهودها.
ولا شك أن الآهات السياسية التي دوت عقب خطاب أوباما من قبل المحافظين ودعاة المغامرات العسكرية تؤكد أن جهوده وبلاغته وحصافته السياسية وجدت لها صدى كبيراً في عقول مليار مسلم وأنها سوف تتحول إلى أفعال سياسية مفيدة ومهمة خلال نضال السنوات الحالية.
صحيفة اخبار الخليج
10 يونيو 2009