خلصنا في حلقة يوم أمس الى ان الجديد و”التاريخي” في خطاب الرئيس الامريكي الذي توجه به الى العالم الاسلامي من داخل قاعة جمال عبدالناصر بجامعة القاهرة ليس في انطوائه على عناصر تؤشر لتغيير نوعي في جوهر السياسات الامريكية تجاه المسلمين والعرب، انما الجديد والتاريخي في الخطاب يتمثلان في لغته غير المسبوقة التي صيغت بعناية فائقة بما يساعد على احداث صدى طيب، إلى حد ما، في نفوس العرب والمسلمين، أو بما يحدث ولو شيئا من التفاؤل الحذر لديهم، وهذا في تقديري هو بالضبط أقصى حدود السقف الذي ينبغي الذهاب اليه من قراءة الخطاب، لا أكثر ولا أقل.
وقبل ان نتناول الاشارات “الحذرة” في لغة الخطاب التي أرسلها أوباما الى العالم الاسلامي وحاول من خلالها الايحاء قدر الامكان بأن خطابه “متوازن”، في حين انه لم يتمكن من الوصول بما فيه الكفاية الى الحد الادنى من التوازن، وان كان في محاولته قد نجح على نحو أفضل من أسلافه الرؤساء الامريكيين السابقين، لعل من المفيد ان نشير الى ثلاثة عوامل في شخصية أوباما لم تساعد فقط على نجاحه في خطابه في احداث شيء من التفاؤل الحذر لدى العرب والمسلمين بل لتقبل العرب من جانبهم شخصيته بما تتضمنه تلك العناصر ذاتها:
أولا: امتلاكه حدا أدنى مقبولا من الخلفية الثقافية والسياسية في الالمام بجغرافية وثقافة المنطقة ومشاكلها الراهنة والتاريخية.
ثانيا: خلفيته الاثنية لانحداره من أصول افريقية، فهو ملم جيدا بتاريخ الاضطهاد العنصري الذي عانى ومازال يعانيه أبناء جلدته من السياسات العنصرية للطبقة الحاكمة تجاه السود وهو ما يحدث شيئا من التطلع المتفائل عند العرب للتعويل عليه باحداث شيء من التغيير في السياسات الامريكية المعادية لمصالح وحقوق العرب والمسلمين، وذلك باعتباره يتفهم مشاعرهم ويشاركهم، ولو من خلال أحاسيسه المكبوتة، الشعور المشترك بالاضطهاد، ويتفهم ولو في حدود معينة الغبن التاريخي المزمن الواقع عليهم من جراء السياسات الامريكية الظالمة بحقهم.
ثالثا: أصوله الاسلامية، فمهما تكن حقيقة الديانة المسيحية التي يدين بها مع غالبية شعبه الا انه لا يستطيع ان يتجرد تماما من أحاسيسه وعواطفه نحو ديانة أبيه الذي كان يدين بالديانة الاسلامية، دع عنك ان كثرة من الامريكيين السود من أبناء شعبه يدينون بهذه الديانة نفسها. ومن ثم فمن المحال بمكان ان يكون معاديا للإسلام والمسلمين على النحو الذي أظهره سلفه بوش.
أما أبرز الايماءات الايجابية اللافتة للنظر التي أرسلها أوباما في خطابه الى العرب والمسلمين والتي حاول اضفاء عليها شيء من “التوازن” فيمكن اجمالها فيما يلي:
1 ــ الاسرائيليون يجب ان يعترفوا بحق الفلسطينيين في الوجود مثلما لا يمكن انكار حق إسرائيل في الوجود.
2 ــ الأزمة الانسانية المستمرة في غزة لا تخدم أمن اسرائيل، ولا انعدام الآفاق في الضفة الغربية.
3 ــ الوضع بالنسبة إلى الفلسطينيين غير مقبول.
4 ــ “المقاومة عبر العنف خطأ ولا تنجح”.. وهذا يعني اعترافه ضمنيا بالحق المشروع مبدئيا بالمقاومة ولو غير المتبنية للعنف على الاقل.
5 ــ الولايات المتحدة لا تعتبر استمرار المستوطنات الاسرائيلية مشروعا.. وحان الوقت لوقفها.
وثمة دغدغة خاصة لعلها لامست مشاعر المسلمين عامة حرص أوباما على ابرازها في نقطتين من خطابه:
الأولى: استشهاده بسبع آيات قرآنية جديدة لم يسبق ان استشهد بها احد من أسلافه لابداء حسن نياته نحو المسلمين والتطلع لفتح الولايات المتحدة صفحة جديدة نحوهم.
الثانية: دفاعه ثلاث مرات عن حق المسلمة في ارتداء الحجاب باعتباره حقا يندرج ضمن الحريات الشخصية وضمن الحريات الدينية. ولأن سياسات دول أوروبا الغربية أقل عداء من أمريكا نسبيا تجاه العرب، وأكثر تفهما للحقوق والمصالح العربية، الى حد ما، من الولايات المتحدة، فلم يفوت أوباما في خطابه الفرصة للتذكير ضمنا بأن بلاده لا تفرض قوانين في مؤسسات التعليم أو غيرها بحظر الحجاب كفرنسا التي أومأ اليها ضمنا، وان تغافل أوباما حقيقة ما تواجهه المحجبات في بلاده من ممارسات تمييزية ومضايقات في المجتمع والمؤسسات. لكن يظل على أي حال في هذا الشأن أفضل من الليبراليين العرب ومعظم منظمات حقوق الانسان العربية الذين يعجزون عن التجرد من ميولهم وثقافاتهم الشخصية العلمانية لعدم تنديدهم المبدئي الصريح بانتهاك تلك الحقوق ولو انطلاقا من مبدأ احترام الحريات الشخصية والحريات الدينية.
لكن هل تكفي كل تلك الايماءات والعناصر التي جاء بها أوباما في خطابه لتبديد كل شكوك وهواجس ومعاناة العرب والمسلمين المديدة من السياسات الامريكية؟ بالطبع لا تكفي فمثلما انطوى خطابه على عناصر وايماءات “ايجابية” الى حد ما تجاه المسلمين، فقد انطوى خطابه ذاته، أيضا، في سياق الظهور بمظهر “التوازن” الذي توخاه بين الطرفين الاسرائيلي من جهة والعربي والاسلامي من جهة أخرى، على عناصر غير ايجابية، ما لم نقل معادية، تثير الريبة والشكوك لدى العرب والمسلمين حول مستقبل احداث تغيير ملموس في السياسات الامريكية تجاههم وتجاه المنطقة ومن ذلك:
1 ــ التقليل من شأن تنازلات الدول العربية المتمثلة في المبادرة العربية “بداية جيدة لكنها ليست نهاية مسئولياتها”.
2 ــ الصلات القوية بين أمريكا واسرائيل لا يمكن زعزعتها.
3 ــ تشديده غير المتوازن في الشروط على “حماس”، أي من دون ان يقابلها تشديد مماثل في الشروط على اسرائيل، كمطالبة حماس بوضع حد للعنف من دون مطالبة اسرائيل بالانسحاب الكامل من الاراضي التي تحتلها عام 1967 وهذا، الاحتلال، هو السبب الرئيسي لاتصاف المقاومة بالعنف المضاد تجاه ارهاب الاحتلال الاسرائيلي المستديم الاعظم عنفاً وفتكاً.
مهما يكن فإن خطاب أوباما ليس سوى بداية أولية من حسن النيات، فأمام الرئيس الامريكي “مشوار” طويل لإحداث النقلة المطلوبة في السياسات الامريكية التي قد لا تحدث حتى في عهده، لكنها على أية حال يمكن القول انها بداية مشجعة كخطوة أولى في رحلة الألف ميل نحو التغيير، فأوباما يبقى في النهاية الابن البار النجيب لدولة المؤسسات الامريكية التي لا يمكن تغيير سياساتها بين عشية وضحاها بجرة قلم على ورقة الخطاب، ومن ثم لا يمكن ان يأتي أوباما بهذا التغيير وحده ليقدمه للعرب والمسلمين على طبق من فضة “مجانا” بسرعة صاروخية وهم على هذا الوضع المأساوي الكارثي الراهن مشتتون وممزقون وتسيرهم نزعات المصالح والمنافع الذاتية والقطرية الانانية.
صحيفة اخبار الخليج
9 يونيو 2009