الشعب الإيراني هو شعب مناضل بقوة عبر التاريخ الحديث، وقد كانت المذهبية الاثناعشرية هي شكلُ نضالهِ القومي للخروج من سطوة الخلافة الإقطاعية المركزية ومن الغزوات الخارجية، فغدا المركز الإيراني هو المنتج الوحيد لسلطة شيعية مستقلة في العالم، فتداخل الطابعان القومي والمذهبي في تركيبة معقدة، لكن مستوى البناء المحافظ خلال قرون الاستقلال القومي لم يتح بعدا كبيرا لدولة تلعب فيها الطبقة المتوسطة دورا مهما، ولم تتشكل سلطة شيعية في مناطق أخرى خاصة في العراق البلد المؤسس للمذهب، لكنه في السنوات الأخيرة أخذ يتململ ويظهر قيادة مختلفة منفتحة، لكن إمكانية الرجوع للوعي النضالي المؤسس وإدماجه بالعصر غدا صعبا لدى مرجعيات محافظة عكست سطوات الدول.
كما عبرت الثورة الشعبية الإيرانية في القرن الماضي عن محاولة القفزة نحو مجتمع متحرر حديث، ولكن ذلك جرى أيضا في سياق تطور دول الشرق حيث تهيمن الدولُ على الاقتصاد، عبر تشكيل رأسماليات حكومية استبدادية.
وقد تضخمت القطاعاتُ الحكومية الاقتصادية وشريحتها المسيطرة من كبار الضباط في الحرس والجيش والإدارة، يعاونهم ويبرر سيطراتهم بعضُ رجال الدين، فغدت المؤسسة البرلمانية وكل المؤسسات السياسية والإعلامية تحت تلك الهيمنة القوية وشروطها، بل ان الحياة العادية للمواطنين تعرضتْ لمثل هذه الإجراءات.
ولهذا تغدو الانتخابات داخل هذا الحيز المشدود، فالمرشحون المتقدمون للانتخابات يجب أن يُرضى عنهم، وأن يمروا على أجهزةٍ متشددة الرقابة والفحص، حتى يحصلوا على البراءة من الشرور السياسية ولكي يكونوا ضمن حكم النظام الصارم.
وبهذا فمن البداية فإن الديمقراطية غير موجودة وبشكل أقوى من دول الشرق الأخرى، وإن كانت الأمور جوهريا واحدة في عالم الاقتصادات الحكومية المسيطرة، لكن الأمور في إيران تزداد صعوبة حتى عن الماضي القريب، فالأجهزة المسيطرة تواجه شعبا معروفا بالانفلات عن القبضات، ويستغل أبسط الثغرات لتنمو إراداته المستقلة الحرة، ومن هنا تجرى هذه التدقيقات المجهرية في أرواح وأفكار المرشحين، حتى يتم النخل النهائي في صورٍ شخصية نادرة تمشي على الصراط غير المستقيم.
ان القيودَ على منصب الرئيس كثيرة فهو الشخصية الثالثة في النظام بعد المرشد ورئيس مجلس تشخيص النظام، وصلاحياته محدودة كذلك، فهو منفذ لسياسة عامة مفروضة سلفا. لكن ثمة إمكانية لتكتيكات تحويلية داخل هذا المنصب، الذي يُعتبر مؤشرا على مزاج الشارع الإيراني. ومن الممكن لهذا المنصب أن يبرز بقوة خلال السنوات التالية خاصة إذا تناسق عمله مع نضال الجمهور للتغيير. والشعب والمذهب واعدان بالكثير من التفتح والنهوض.
ومن الواضح أن أجهزة الحكومة ستعمل من أجل فوز أحمدي نجاد الرجل الطالع من الأجهزة المتنفذة، في حين ان مير موسوي ينتمي للأجهزة الإدارية المدنية، وداخل هاتين القوتين ثمة وحدة واختلاف، فالوحدة تعود لطبيعة الطبقة المسيطرة رغم تعدد فئاتها ومكوناتها، وهذه الطبقة متحكمة في المال (العام) وهي تعملُ على استتباب السيطرة لهذه الملكية، وفي داخل هذه الوحدة هناك تباين، بين من يريد التركيز في فئاته وقطاعه الحكومي المحدد وآخر يتطلع لفئات وقطاع مختلف.
ولا شك أن ثمة فرقا بين سيطرة القوى العسكرية وسيطرة القوى المدنية، فالأولى صاحبة توسعات خطرة على الشعب الإيراني ومضرة بتطور اقتصاده السلمي، في حين ان الثانية تركز في الاقتصاد المدني وآفاق تطور أكبر وأفضل لمستقبل التطور.
وقد مثل نجاد الفئة الأولى بشكلٍ بارزٍ وحاد، ولعل الشعبوية والاستعانة بمصطلحات (يسارية) هي جزءٌ من إخفاء الطابع الاجتماعي لهذه الفئة العليا المتسيدة على أهم اقتصاد في إيران الذي ينمو بسرعة فائقة على الطريقة الدعائية الصارخة بالشعارات القومية والاجتماعية المحبة للبؤساء، التي تقودهم في ذات الوقت للمشكلات العميقة.
ومن جهةٍ أخرى فمير موسوي البيروقراطي المنتمي لذات الطبقة الحاكمة التي ارتفعت بقوة فوق الرأسمالية الحكومية، يريد تطويرها من جهة أخرى عبر العلاقات التجارية والسلمية والتقنية وتخفيف الهيمنة على القطاعات الرأسمالية الخاصة والنسائية، مما يجعله يمثل درجة معينة بسيطة ومتقدمة عن نظيره العسكري القومي المتأجج. وهو خط عموما بدأ من السيد رفسنجاني والرئيس خاتمي ولكنه لم يتجذر كثيراً نظرا لعدم نمو الرأسمالية الخاصة الإيرانية الصناعية بشكل مهم، وعدم نمو الوعي الديمقراطي داخل المنظومة الدينية، والجانبان متعاضدان.
ولهذا فإن الداعين للمقاطعة يجانبهم الصواب، وهم لا شك من القطاعات المعارضة، ولكنها حين تقوم بذلك تضر بتطور النضال من أجل التقدم والسلام في إيران وفي محيطها المتضررين من سياسة العسكرة.
وعلى العكس فإن التصويت لمرشح واحد معارض وتراجع الآخر هو المهمة المطلوبة خلال الأيام القليلة القادمة، بحيث يتوحد الفعل الشعبي ويتوجه لتغيير الوضع السياسي الراهن.
ليس من الممكن نشوء معارضة مؤثرة ديمقراطية دون الحد من سيطرة القطاع (العام) على الحياة الاقتصادية، ونشوء محاسبات عميقة من البرلمان له، وتوسيع القطاعات الخاصة المختلفة، وحدوث تعاون بين الفئات المتوسطة والقوى العاملة، وازدهار الوعي الديمقراطي لقراءة الاثناعشرية والإسلام عامة.
فلا يمكن أن تأتي التحولات السياسية الإيجابية الفوقية من دون نضال طويل وعميق على الصعيدين الاقتصادي والفكري، وهو أمرٌ يجرى في العديد من بلدان الشرق التي أُتخمت من السيطرات الحكومية على الاقتصاد والثقافة والحريات، وحان زمان التغيير.
صحيفة اخبار الخليج
8 يونيو 2009