بدأت التطورات السياسية في دول الشرق توضح أن الملكيات (العامة) كانت في أغلبها ملكيات حكومية بيروقراطية ولم تكن ملكيات شعبية حقيقية.
ولم يصل وعي الشعوب إلى ان تدخل بقوة لتغيير هذه الملكيات إلا بطرائق عفوية.
إن القوى البيروقراطية داخل هذه القطاعات (العامة) هي التي قررت التغيير بناء على عوامل سياسية واقتصادية معقدة. فقد رأت أن مصالحها تتعرض للخطر إذا استمرت هذه الرأسمالية المُدارة من قبلها، مع غياب تفويض الإدارة من قبل الشعوب.
ولهذا كانت (الإصلاحات) هي استمرار لعقليات الهيمنة على الملكيات (العامة) فالدول هي التي تقرر مدى ما تسميه بـ (الإصلاحات)، أي ما يُباع من هذه الملكيات وما يبقى تحت الإدارات وبأية طرائق تتم عمليات التصفية والإبقاء.
الرأسماليات الحكومية التي تديرها البيروقراطيات تعني أنها ملكيات خاصة لهذه الإدارات التي تحكمت في التصرف بها خلال عقود، وإلى أي حد هي عامة وإلى أي حد هي خاصة، هذا أمر لا يعرف أهل كل بلد تدار فيه مثل هذه العمليات الاقتصادية.
أي أننا أمام طبعة ثانية من الرأسماليات الحكومية الشمولية، التي تقول إن هذه الملكيات هي عامة ولا يمكن بيعها كلها، ولابد من الاحتفاظ بها كأساس للتنمية (الوطنية). رغم أن هذه الأملاك العامة في حالة خسائر مستمرة.
وللبيروقراطيات طرائق تحايل عريقة ولكن أمام تباطؤ تطور هذه الملكيات وخسائرها والاثراء من خلالها لدى هذه البيروقراطيات بحيث غدا هذا الفساد مشكلة وفضيحة داخل أقسام أي طبقة حاكمة.
وهنا تطرح مسألة مهمة هل تغدو الإصلاحات طرق تحايل جديدة على الإصلاحات، أي يظهر شركاء جدد يمدون نفوذهم في الأملاك (العامة)، أم أن العملية جدية في هذا الإصلاح؟
ومن الواضح في البلدان الشرقية عموماً أن الصراع يدور حول فوائض المواد الخام الثمينة، كالبترول والغاز والفوسفات والمناجم وغيرها، وإصرار البيروقراطيات على التحكم في هذه الثروة وتوزيعها بطرائق مُلتبسة، وأبعاد الرقابة الدقيقة عنها.
وتترتب على ميوعة توزيع الفوائض والتباسها حتى لدى المشرعين نظراً لتحكم الحكومات في تمويه الاتفاقيات الاقتصادية بين الحكومات والشركات المحلية أو العالمية، وكون هذه الاتفاقيات جرت في أزمنة الشمولية وغياب المعلومات لدى الرأي العام، استمرار الاختلالات في البناء الاجتماعي لكل بلد واستمرار الاضطرابات.
ونتيجة لأن إصلاحات الرأسمالية الحكومية الشمولية هي نسخة مستمرة للرأسمالية الحكومية المهيمنة فإن الأحوال تبقى على ما هي عليه ان لم تزدد سوءا.
أحياناً تغدو الإصلاحات تفكيكاً لدولة كبيرة كالاتحاد السوفيتي، حيث تقوم البيروقراطية الأساسية وهي البيروقراطية الروسية في هذه الحالة بتملك أغلبية الثروة العامة للاتحاد السوفيتي، وهو أمرٌ أدى إلى إنفلاش الاتحاد وتحكم البيروقراطية الروسية بقوة في اقتصاد البلد وزاد هذا من الأثرياء الكبار إلى درجة هائلة!
وفي الصين ظهر أصحاب الملايين فوق عمل شعبي رخيص وهائل.
فكيف يغدو (الإصلاح) زيادة هائلة في الإثراء الفاسد؟
حدث هذا خاصة مع زيادات أسعار النفط، ونرى ان الصراعات بين الكتل الحاكمة، تتفاقم مع هذه الزيادات ومع ظهور وسائل إثراء جديدة. فتظهر قوى سياسة جديدة تقول بأنها تقوم بإصلاحات نظراً للوضع الاقتصادي السيئ السابق، في حين أنها تريد وضع اليد على ملكيات الدولة أو أنها تريد توسيع حضورها الاقتصادي.
كذلك فإن أدوات الرقابة على الملكيات(العامة) ضئيلة جداً في هذه الدول ذات الملكيات العامة السائدة، نظراً لغياب البرلمانات والنقابات والصحافة الحرة خلال عقود، وهي إذا ظهرت تكون مقيدة بشكل كبير ومغلولة الأيدي عن الفعل المغير.
فإذا كانت الدول تملك 80% من الشركات الكبرى الإنتاجية المنتجة لفائض القيمة الوطني، وهي بهذا تتحكم في توجيه معظم الدخول، وتشكل الإدارات الحكومية والاقتصادية العامة كيفما تريد، ويغدو أغلب المواطنين وغير المواطنين يشتغلون لديها أو لدى قوى الرأسمال الخاص التي نمت تحت أجنحتها، فإن الديمقراطية والانتخابات والكتل السياسية تغدو من إعدادها للمسرح السياسي.
ولا عجب بهذا ان يستطيع حزب حكومي نبت بين ليلة وضحاها ان يسيطر على الأغلبية البرلمانية. أو ان صيغاً مشابهة تحدث في بلدان أخرى، كلها لا تغيّبُ هذه الحقيقة، بل تلونها حسب أوضاع وتطورات كل بلد.
فإذا استمر الفساد الاقتصادي كيف يمكن ان تجري إصلاحات؟
الخطورة ان تضاف قوى جديدة تشارك في العمليات الاقتصادية الغامضة، فيظهر مستثمرون مفاجئون وشركات وهمية جديدة، وقادة سياسيون كبار يظهرون بين عشية فاسدة وضحاها، وتبرز صحفٌ جديدة ذات إمكانيات هائلة وأصحابها معدمون، وتلعب الأجهزة الحكومية الإعلامية دوراً نشطاً في تصعيد مثل هذه الفقاقيع السياسية والثقافية.
وفي خلال هذه الهوجة (الديمقراطية) تكون الأجهزة الحكومية والشركات الخاصة المتداخلة معها قد توغلت في مناطق استثمار جديدة واقتنصت ثروات خيالية، في حين أنها تماحك على الفلوس الصغيرة الموجهة للعاملين.
هل هي طبعة جديدة من الرأسمالية الحكومية الفاسدة الشرقية في حالة توسع، أي ان العملية هي تحسين صورة معينة وإبقاء الجوهر على ما هو عليه؟
هل تتمكن الأدوات الديمقراطية الشاحبة ان تفعل شيئاً مع صراعاتها ونشوء أحزاب كثيرة وصراعات هذه الأحزاب مع بعضها البعض؟
بل ان بعض الرأسماليات الحكومية تقوم بتحميل العاملين فاتورة ما أفسدته في الاقتصاد وما يجري من تباطؤ في التطور الاقتصادي ومن ميزانيات هزيلة ومن تآكل للملكيات(العامة) بأشكال متعددة كالقيام بخصخصة للوزارات ذات الأهمية الجماهيرية كالكهرباء والبريد والمواصلات العامة والمياه وترك الموارد العامة الغنية تائهة أو غامضة الوضع.
عملية تغيير الطبعة الثانية من الرأسماليات الحكومية الشرقية صعبة ولا شك، ومسألة نمو الحريات الديمقراطية تحتاج لقوى شعبية ومعرفية وسياسية هائلة متعاونة.
صحيفة اخبار الخليج
7 يونيو 2009