تلعب قياداتُ الرأسمالياتِ الحكومية دوراً بالغاً في توجيه مجرى التطور الاقتصادي في خيارات التطور الاقتصادية الشرقية، وهناك نمطان: تحديثي جذري، وتحديثي محافظ.
فتقوم قياداتُ الطبقة العاملة أو البرجوازية الصناعية بتشكيل مسار التطور التصنيعي الجذري، والحالة الاستثنائية كانت الحالة اليابانية التي لعبتْ فيها النخية الامبراطورية الدورَ المفترض للبرجوازية الصناعية.
إن هذه القيادات المتناقضة اجتماعيا عملتْ على التوجه للصناعاتِ الثقيلة وحشد أغلبية السكان لهذه الثورة الاقتصادية، ومهما يكن من دورٍ للطبقاتِ العاملة فإن البرجوازيات التي تنمو من خارج أجهزة الحكم أو من داخله عبر القنوات البيروقراطية ترثُ الملكياتِ العامة أو على الأقل النصيب المهم منها.
إن تجاربَ مثل روسيا والصين لم تكن فقط بفعل الطبقات المنتجة وهي العمال والفلاحون بهذه الدرجة أو تلك من الحضور الاجتماعي، بل كان المثقفون الطالعون من العمال والبرجوازية الصغيرة خاصة، وهم جماعاتٌ طليعية ذات رغبة شديدة في القفزات الحضارية وتحقيق نماذجهم الحلمية المستقبلية، قد لعبوا دوراً خطيراً في صياغة هذه التجارب، وتوحدوا مع العاملين بسببِ نظرتهم وظروفهم الاجتماعية الصعبة غالباً. (وهو أمرٌ تحقق في الأديان كذلك لكن من خلال مراحل وأنظمة مختلفة).
إن الطبيعة المدنية، أي انبثاق قيادات الرأسماليات الحكومية الشرقية، عن قيادةِ المدينةِ للريفِ هو العاملُ الحاسم الذي جعلهم يحدثون تلك القفزات الاقتصادية الهائلة، رغم الخسائر التي تسببوا فيها عبر خطط القفزات الكبرى التجريبية تلك.
في حين جاءتْ تجربة الهند وقيادة البرجوازية متذبذبة في هذا المجال بحكم جذورها الاجتماعية المترددة، وعدم انسلاخها من الإقطاع الذي تشكل على هيئة المهراجات المؤثرين في الحياة الاقتصادية السياسية المتداخلة. لكن الحزب على مدى زمني طويل انتقل بالهند للحداثة، من دون الخسائر البشرية في التجارب الأخرى، بسبب رفضه سياسة العنف والتضحية بالبشر خدمة لأغراضٍ سياسية واعتماده على الديمقراطية.
في حين نجد أن أغلب قيادات الرأسماليات الحكومية العربية الإسلامية كانت من الأرياف، وهنا نرى أنه لا يوجدُ فرقٌ كبيرٌ بين قيادة مصر في اثناء الثورة وقيادة إيران في اثناء الثورة، اللتين جرتا في أوقات مختلفة.
ونجد أن طابع القيادة الريفية أكبر في إيران، ولهذا فإنها لم تصل حتى إلى مرتبة التغييرات الثورية للقيادة المصرية.
إن طبيعة القيادة الريفية للرأسمالية الحكومية تـُحجم من عملية الثورة الصناعية بتوجهها للصناعاتِ الاستهلاكية ولبعضِ الصناعاتِ الثقيلة المحدودة التي غالباً ما تكون رافعة للصناعات الخفيفة، وهذا أمرٌ يعكسُ رفض هذه القيادات إعادة التغيير في قانون السكان القديم، أي أنها تـُبقي أقساماً كبيرة من الريفيين والنساء خارج الثورة الصناعية، الأمر الذي ينعكس في العلاقات غير الصحيحة وغير المتناسقة بين هذين الفرعين من الصناعات، فتحدثُ خللاً كبيراً في التطور الصناعي الوطني عامة، ويتفجر ذلك حين تحدث أي تغييرات سياسية، فيتم الانفتاح على الأسواق الغربية، وتتضاءل حتى الإنجازات التصنيعية التي حدثت سابقاً. فنرى الفرق واضحاً بين سياسة عبدالناصر التصنيعية وسياسة السادات الانفتاحية، ولكن مشكلة عبدالناصر عدم جذريته في التصنيع وما وراء ذلك من جذور طبقية مترددة.
ويرافق هذا بشكلٍ جبري إبقاء الثقافة الدينية التقليدية وهو تعبيرٌ عن رفض تعميق الثورة الصناعية الجذرية، وإبقاء لفئات اجتماعية طفيلية كبيرة خاصة في الأرياف وفي الإدارات الحكومية، وعدم تثوير الثقافة وهيمنة الذكورية المحافظة الرافضة تطور النساء والرافضة توسيع رقعة العلوم لتغدو ثورة معرفية جماهيرية.
وجذور هذا الجمود تعود لكون هذه الفئات الريفية هي نتاجُ استغلالِ الفلاحين عبر العصور السابقة بأساليب إنتاجية متخلفة، وعبر ثنائية الاقتصاد والدين، فتكون مُجمدة للإسلام أو للمسيحية إذا كان السكانُ مسيحيين وغيرهما من الأديان والمذاهب المشتقة منهما، فهذه القوى منتجة لقشورها ولعلاقاتها الاجتماعية العبادية الشكلانية ولأهداف استغلالية.
وتنتقلُ هذه المحافظة في السياسة والدين إلى المدن التي يتمُ تحويلها إلى ريف، أو إلى باديةٍ، حسب النظم الاجتماعية البدوية إذا كان المسيطرون من الصحارى، حيث تضفي القوى المستيدة على الحياة المدنية تقاليدَها القروية أو البدوية حسب تضاريس العالم الإسلامي وحراكه الاجتماعي عبر العصر الحديث.
وبخلاف روسيا والصين وهما البلدان الهائلان اللذان يملكان مقومات السوق الواحدة الواسعة، فإن البلدان الأخرى لا تملكُ مثل هذه القواعد الاقتصادية الكبرى، فتتعثرُ وتضيفُ سياساتـُها المحافظة مشكلاتٍ أخرى إضافة إلى إشكاليات الرأسمالية الحكومية الشرقية.
فبلد مثل كوبا أو فيتنام له ظروفه الموضوعية وموارده التي لا تتيح له مثل تلك القفزات التصنيعية الضخمة التي يستوردُ نماذجَها من بلدان كبرى، وتلعب المواقف السياسية كذلك دورها في الإضافة إلى إشكاليات الرأسمالية الشرقية كقضايا الحروب والحصارات.
أما البلدان الأخرى ذات القيادات الريفية أو البدوية فإنها تقوم باستعادة جزءٍ كبيرٍ من العلاقات الإقطاعية القديمة وإدماجها في طبيعة رأسماليتها الحكومية، وتجر هذه المخلفات نفسها على مدى عقود وربما تعود تلك المخلفات للسيطرة ثانية فترجعُ عقاربُ التاريخ للوراء، وهذا يأتي على هيئة تفجر مناطق الأرياف بالمشكلات وتنطعها للقيادة ثانية وثالثة بعد أن احترق الأخضر واليابس، على غرار ما يجري في باكستان والسودان وغيرهما.
وقياداتُ الرأسماليات الحكومية الشرقية تبررُ كلَ هذه الأنظمة والحالات المتناقضة الحادة بلغات سياسية مطلقة، تعكس ايديولوجياتها المختلفة، وهاتان الحدة والإطلاقية تتشكلان على الأرض من خلال المادة العسكرية الصارمة، التي تلغي أو تحد من الخيارات الأخرى ومن الإمكانيات التي يتيحها تعددُ الأنواعِ الاقتصادية، ونمو مواد العلوم، وفي النهاية فإن التشويهات الاقتصادية التي تظهر بها القطاعات العامة في خاتمة مرحلة الدكتاتورية، تبدو واضحة جلية وبحاجةٍ إلى موارد جديدة وإلى خطط علمية اقتصادية، وكثيراً ما تكون الإصلاحات اسوأ من عمليات البناء، بسبب ان ثمار الدكتاتورية تكون مستمرة، وتأتي الأحداث السياسية بعواصف وتقلبات وقيادات لا تلقي نظرة موضوعية لأنها استمرار للسابق من خلال التشويهات والفساد الذي جرى خلال حقبة طويلة، وهي تريدُ شرعنة مواليدها والحصول على شعبيات زائفة فتنتجُ طرائق جديدة غير مدروسة فتضيفُ مشكلات الجديد على مشكلات القديم.
صحيفة اخبار الخليج
6 يونيو 2009