تمثل الخلافة الإسلامية رمزاً عزيزاً على قلوب الملايين، فقد كانت حافظة الهوية ومُقاوِمة الغزاة وناشرة الثقافة، بتلاوين كثيرةٍ وباتجاهاتٍ اجتماعية لا تـُحصى.
وحين انهارت الخلافة الإسلامية في تركيا في العقد الثاني من القرن العشرين كان ذلك بلا بديل سياسي عالمي يقاوم الاستعمار ويشكل بؤرة حضارية مختلفة عن العالم القروسطي الجامد لحياة المسلمين طوال قرون، ومضت كل أمة بل كل دولة في خطها الخاص.
وحين يظهر أمثال (أبي حمزة) أو (أبي قحطبة) ويعلنان الخلافة الإسلامية في بقعةٍ نائيةٍ ويقطعان الأيدي ويعودان لما يفهمانه من الشريعة، ويتكلمان باسم أمير المؤمنين، يضحكُ الكثير من الناس رغم أن ثمة خيطاً رفيعاً من الحقيقة هنا.
فأمثال قطاع الطرق هؤلاء إنما يعبرون عن حاجة هذه الأمم الإسلامية إلى الوحدة والتعاون المشترك والتصدي للقوى المتغلغلة الطامعة، وكذلك عن رغباتها أن تكون صانعة للحضارة والتقدم في التاريخ الإنساني كما فعلت وأعطت سابقاً بشكل تاريخي مبهر.
لقد تمزقتْ هذه الأممُ كما تمزقتْ أقاليمُها الداخلية، وبقيتْ الشعوبُ والاثنيات والطائفيات المختلفة تتصارع على فتاتِ العصر، ولم تستطعْ دولٌ كبيرة من الدول العربية والإسلامية أن تقوم بدور القيادة الديمقراطية ودور القيادة الحضارية، للملمة هذه الشعوب في أعمال اقتصادية مشتركة عملاقة تعيدُ الإنتاجَ الحديث لهذه الأمم.
لا تحتاج هذه الأمم إلى خلافة عسكرية توجه الحملات للشعوب وتستخرجُ منها الخراجَ بالقوة، وتتركها في أحوالها المتخلفة الصعبة، فتتمرد هذه الشعوب وتنزع للانفصال وتمزيق الوحدات السياسية المختلفة كما كان يجري الأمر في الخلافة الإسلامية السابقة التي بُنيت على أسسٍ استبدادية.
ولكن لا توجد قيادة للأمم الإسلامية، فالدولة الكبيرة الصناعية الديمقراطية لم تظهر بعد بشكل واسع مؤثر عالميا، وكل الدول الحالية تسعى إلى مصالحها الخاصة، التي هي مصالح الأقليات الحاكمة الاستغلالية، فكيف تفكر في أمور الأغلبيات الشعبية العاملة المحرومة؟
ومن دون أن تكون هذه الدولة الريادية الإسلامية المجمعة للكل الضائع، دولة صناعية كبيرة وتمد خطوط الاتصال المتنوع، وتتعاون مع الأمم الإسلامية المتخلفة في النمو والفقيرة التي تعيش معاركها الطائفية والمناطقية الكارثية المستمرة، فإن المحيط كله يتضرر ويُجر للأزمات والصراعات.
لكن ذلك يحتاج من أي دولة كبيرة عربية إسلامية إلى أن تكون هي نفسها متوافقة مع شعبها، مطورة لقدراته الاقتصادية والسياسية والثقافية، لا متناحرة مع شعبها ومتناحرة مع بقية الأمم الإسلامية.
إذا أرادت أي دولة أن تكون قيادة إسلامية عالمية فعليها أولاً أن تصلح بيتها الداخلي، وتعطي الطوائف الإسلامية وغير الإسلامية حقوقها، باعتبارها جزءاً من مكوناتها.
فأي دولة ممزقة تقوم بكبت القوميات والطوائف داخلها لا تستطيع أن تصلَ إلى مستويات اقتصادية متطورة، لأن الحروب والصراعات الداخلية والصرف على الجيوش تخرب الأسواق.لكن أين نجد نموذجاً مثل ذلك؟
وتمزيق الداخل لا يقود لزعامة الخارج مهما اصطنعت هذه الدول من الصرف على الجماعات المؤيدة لها خارجها، فالأصل الأممي الإسلامي يُنتج من داخل وطني متماسك ومتعاضد.
تحاول تركيا الآن أن تعود للشرق بعد أن خذلها الغرب.
وهي دولة ذات موارد محدودة، لكن النمو الاقتصادي الرأسمالي الخاص في زمن العلمانية السياسية الطويل نسبيا، ووجود جاليات كبيرة لها في أوروبا، ساعداها على التقدم الاقتصادي الرأسمالي الخاص وعلى إنتاج حريات اقتصادية وسياسية كبيرة.
ولعل حراك السياسة التركية الحكومية الكثيف خلال السنوات الأخيرة هو رغبتها أن تكون قيادة اقتصادية لمنطقة تخلو من عملاق اقتصادي مسالم ومتعاون، يغدو مثل الأخ الكبير لمجموعةٍ من الأسر المفتتة المتصارعة بلا مؤثر راع لهذا التنوع ويستفيد منه ويقوده للتطور العالمي.
ولعل في كونها الدولة التي ألغت الخلافة الإسلامية، وجعلتها العلمانية الشكلانية في العديد من الجوانب، التي أزاحت صلاتها وجذورها، ترى بعد تطور اقتصادها خطأ القفزة في الهواء، وكذلك فإن البرجوازية الحاكمة التي تمردتْ على العسكر تحتاج إلى أسواق ورساميل تغذي اقتصادها.
وما يمنعها من أن تكون قوة سياسية مؤثرة دافعة للمحيط العربي الإسلامي، هو كونها لا تنطق العربية، اللغة العالمية لهذه المجموعة من الأمم والشعوب، وأنها ابتعدت عن المحيط العربي الإسلامي عقودا طويلة، لكن هذا لا يمنع أن تكون إحدى دول الحداثة البارزة الجامعة للفسيفساء الإسلامية، الموجهة لها نحو الحداثة والتجمع الإقليمي التوحيدي في عالم يحتاج إلى قوى كبرى وأسواق هائلة موحدة.
إن الدول الإسلامية تتجه للتمزق والصراعات الطائفية والعنصرية وبحاجة إلى قيادة كبيرة نابعة منها، تقوم بالمساعدة وإطفاء هذه النيران، وبناء مشروعات اقتصادية مشتركة، وجعل التنمية هي حياتها.
بلدان قارية واسعة لا تملك سكك حديد مشتركة، ولا وسائل اتصال واسعة، وكل منها يتجه للغرب أو الشرق يقيم علاقاته.
لماذا تتوجه البلدان (الثرية) الإسلامية لتضع فوائضها النقدية في الغرب والشرق وتتركُ الدولَ الإسلامية من غير ذات الموارد الكبيرة، وهي قاربها المشترك تــُثقب بألف فأس، فقيرة محتاجة، وإذا لم تمدْ أيديها لطلب المعونات لجأت إلى حروب العصابات والقرصنة أو تمزقت داخليا؟
هل كانت دول المؤتمر الإسلامي في مستوى هذه التحديات الهائلة التي تواجه الأمم الإسلامية؟ ماذا أنتجت وماذا كونت من أسواق مشتركة وعلاقات حميمة؟
ذلك لم يحدث لأن المذهبية السياسية الحاكمة في كل بلد تصورُ لنفسها أنها المعبرة الوحيدة عن الإسلام، وهي لا تقول مصطلح الأمم الإسلامية، لأنها عبر ذلك القول التجريدي تخفي الواقعَ الموضوعي، فثمة تاريخ معاصر تكونت به شعوبٌ مستقلة، لها مصالحها وعلاقاتها الخاصة، فلم تعد الخلافة المركزية الآمرة الموروثة بقادرة على أن تشكل علاقات سياسية ديمقراطية بين الشعوب المؤمنة بدين واحد. لم يعد البابا المسيحي ولا البابا الإسلامي بقادرين على تكوين خلافة.
لابد من الاعتقاد بالتعدديات السياسية الإسلامية وبالتعاون بينها لتقوية علاقاتها وبناء قوة اقتصادية كبيرة في عالم الإنسانية المعاصر.
صحيفة اخبار الخليج
5 يونيو 2009