المنشور

الرأسمالية الحكومية الإيرانية (2 – 2)

إن الإجراءات ومسارات تشكيل المجتمع كانت توضح تباين طريقي الدينيين والليبراليين، وفيما كان الليبراليون يسعون لإضعافِ الدولة وتقوية المجتمع المدني، كان الآخرون على الضد منهم، ولكن لنر ما لدى الليبراليين من أدوات لتحقيق نظامهم المفترض.
كان تحالفهم مع الدينيين يتوجه لضرب الحريات التي كان يُـفترض أن يكونوا هم المدافعون عنها بوجه الموجة الدينية الشمولية:
(وافقَ كلٌ من قادة الحزب الجمهوري والليبراليون على فكرة الثورة الثقافية من خلال الفعل المباشر للجماهير الذين حرضوا على التظاهر فى ساحات الجامعات. كان ذلك بالنسبة إلى الليبراليين وسيلة للتخلص من المحرضين اليساريين في النقابات العامة والمصانع والمناطق الريفية، حتى يمكن اعادة الاستقرار الاقتصادي والسياسي للبلاد.)، السابق.
وبتصعيد مثل هذه الأدوات وبإدخال الغوغاء لضرب المثقفين والعمال والجرائد اليسارية، وهي أدوات طالما استخدمتها الرأسماليات الحكومية المستبدة خاصة نظام ماو تسي تونج وغيره، قام الليبراليون بعزل أنفسهم عن الجمهور الطليعي.
وكانت جذورهم الاقتصادية التصنيعية ضعيفة، ولهذا كانوا يُسمون قوى البازار، كما أن رفاهيتهم الكبيرة ساعدت الدينيين على تصويرهم بالقوى الطفيلية.
كما أن قواعد الدينيين الاجتماعية من جهةٍ أخرى كانت واسعة بسبب الاقتصاد التقليدي العريض: قطائع زراعية، وعقارات، وحرف، فكان الجمهور مشكلا من غياب الاقتصاد الحديث، وعبر هذا الجمهور المتمسك بالعادات الإسلامية في اللباس والعبادات، في هذا المجتمع، كان التراث الديني التقليدي الشعائري هو السائد، ولكن الدينيين حولوه لفعلٍ سياسي مضادٍ للحريات ولهذا الجمهور الكادح نفسه، ومن أجل تركيز السلطة بين أيديهم، تجاه التقدميين واليساريين ركزوا على الطبيعة (الإلحادية) لفكرهم، وقد ساعدهم هؤلاء أنفسهم نظراً لعدم تشكل النظرة التغييرية من داخل التاريخ الإسلامي وعبر الارتكاز على التراث، فـُصورتْ غربتهم عن التراث كفعلٍ معادٍ للإسلام، وليس كنقلٍ ثقافي حضاري مهم للشعب الإيراني في وقت لم تكن فيه أدواتٌ فكرية نضالية إيرانية مُنتـجة محلياً، وخاصة أن الإسلامَ تم السيطرة عليه من قبل المحافظين وتجييرهِ لخدمةِ السلاطين والشاهنشاهات عبر القرون السابقة، ولكن اليساريين من جهة أخرى، لم تتطور نظراتـُهم مع تصاعد الصراع الاجتماعي، وظلت شعاراتـُهم السياسية مفصولة عن فهم القوى الاجتماعية والإرث وكون الدينيين المحافظين يعبرون عن قوى الاستغلال المتصاعدة في حراكها من الإقطاع الحكومي إلى الرأسمالية الحكومية المرتكزة على تخلف القوى الشعبية الريفية خاصة، لأجل استخدامها في مشروع الرسملة المتصاعد بأجورٍ زهيدة، وبلا حقوق كبيرة، وعبر تخلف ثقافي يتيحُ لتلك القوى القيام بمختلف المشروعات السياسية.
إن استخدام الإرث كان فعلاً سياسياً مباشراً، فعبر تصوير اليساريين بالملحدين أعداء الإسلام، وتصوير الليبراليين كخدم للغرب، كانت تجرى عمليات قمع واسعة لتجسيد ما يصوره الدينيون المحافظون بأنه الإسلام:
(احتلت فرق حزب الله الجامعات، اصابت وقتلت أعضاء الجماعات السياسية التي كانت تعارض الثورة الثقافية، واحرقتْ الكتب والصحف التي اعتقد أنها “غير اسلامية”، وأغلقت الحكومة كل الجامعات والكليات مدة ثلاث سنوات تم خلالها اعادة كتابة مناهج الجامعات.)، السابق.
إن الهيمنة الدكتاتورية تنتقل من القيادة السياسية إلى الاقتصاد وتستثمر الفوائض النفطية خاصة في توسيع القواعد الاقتصادية والمشروعات وأنظمة التسلح وتوسيع عسكرة المجتمع، وقمع الحريات السياسية ثم الفكرية والاجتماعية، تقوية لذلك البناء الاقتصادي البيروقراطي.
وهكذا فإن الليبرالية يُقضى عليها من الجانبين عبر توسيع الملكية العامة لتغدو هي الهيكل الاقتصادي المسيطر، وبإزالة الحريات والتفكير الحر، وبفرض قالب عام مؤدلج تجرى عبره الاحتفالات والمفاسد والمسالخ والحروب.
الماضي أقوى، والاقتصاد التقليدي أوسع، والجماهير أغلبها أمي، وحينئذٍ تأتي عمليات الغسل العقلية الجماهيرية لتنمية خط اقتصادي، يوسع مشروعات، لكنه يفسدها عبر التحكم البيروقراطي، وتزداد الصناعات الاستهلاكية بسبب ذلك ولعجز الاقتصاد بهذه التسربات الكثيرة والعسكرة عن إنشاء الصناعات الثقيلة.
وإذا كان الليبراليون متحالفين متعاونين في ضرب اليسار مع الدينيين فقد حاولت فصائل العمال الدفاع عن أنفسهم ولقمة عيشهم فانتشرت موجة من الاضرابات:
(كان اليسار مسيطراً في أوساط الطلاب برغم الموجة الاولى من القمع الذي تعرض له في أغسطس 1979، وكانت مجالس شورى المصانع قد انهكت نتيجة لموجة القمع ذاتها، لكن استمر الكثير منها قائما لعام آخر، وبالطبع لم يكن استعداد العمال للصراع قد انتهى – ففى عام 79-1980 كان هناك 360 اضرابا متنوعا “الاعتصام بالمصنع أو احتلاله” و180 اضرابا في 80-1981 و82 اضرابا في 81 – 1982)، (السابق).
لكن نظرا لكون الفصائل اليسارية ماشت الموجة الدينية بقوة في البداية، وأيدت صعود الرأسمالية الحكومية ذات القناع الديني، واعترضت على أشياء جزئية، وانساقت مع موجة العداء المضلل للاستعمار الذي يصطنعهُ النظامُ وسيلة تخديرية للجمهور، ولم تفرق بين جوانب التبعية وبين جوانب الحضارة الغربية الديمقراطية، الضرورية لمنع الاستبداد، وهذا يبين الطبيعة العقلية ليسار ديني غائر تحت الجلد السياسي، فاليسار نفسه يعيش ظروف الدينيين الاجتماعية العقلية المحافظة، من حيث العلاقة بالدين والنساء والتاريخ، ولهذا فإن حراكه إضرابي جزئي اقتصادي، أو عسكري إرهابي أو جماهيري نقدي عقلاني مفيد لكنه يُقمع وينتهي.
بقعُ اليسار والليبرالية صغيرة في هكذا مجتمع ديني محافظ، يبدو للجمهور فيه أن الدينيين هم الجذر والأصل والتراث، نظراً لطبيعة الثقافة والمهن والتاريخ القومي.
وككل الرأسماليات الحكومية الشرقية الشمولية فإن الطبقة المسيطرة من العسكريين والموظفين الكبار المتضافرين مع رجال المال والمعبرين عن مصالح هذه الرأسمالية سوف يتوجهون لليبرالية المنسوجة على قياس مصالحهم، وإلى إيجاد مجتمع أقل استبدادا، وتخفيف الطابع الديني الشمولي للنظام من دون الخروج التام منه، إذا لم تفجرْ الحروبُ والثوراتُ هذا النسيج.
وهكذا فإن خيار الرأسمالية الحكومية الروسية أو الصينية الشاملة قاد إلى نشر العلاقات الرأسمالية الحديثة بصورة جذرية، مثل خيار الرأسماليات الخاصة في اليابان واستراليا والهند، ومن منطلق آخر، ومن مستوى اقتصادي مختلف.
لكن خيار الرأسماليات الحكومية الدينية في العالم الإسلامي يستندُ إلى واقع قوى إنتاج متخلفة، ذات جذور قروية وبدوية(فتصير قوى شيعية وسنية متصارعة)، ويتم عرقلة تطور العلاقات الرأسمالية والتحديثية في الريف ولقوى الإنتاج البشرية، خاصة النساء، نظرا لتخلف العلاقات الاجتماعية والثقافة، وهو ما يؤدي إلى رأسماليات حكومية ذات تناقضات هيكلية اقتصادية كبيرة، فتتجمدُ الأريافُ والنساءُ والذهنية العقلية عن التطور، ويُعرقلُ التلاقح بين العلوم والصناعات، وتتضخم الأجهزة الإدارية وتتحكم في الأسواق، وتزداد القيودُ الحكومية في كل مجال، مما يوسعُ الفساد من جهة أخرى، ويؤدي بالكثير من الفوائض نحو الغرب أو للبذخ الخاص أو للعسكرة أو إلى جلب العمالة الأجنبية الرخيصة،(في إيران تتضخم العمالة الأفغانية) وهو تعبير عن العجز عن تطوير القوى المنتجة البشرية المحلية. وكل هذا يُصور باعتباره الطريق الإسلامي للثورة أو التطور السياسي الرشيد للدول الإسلامية!
وهذا الطابع المتخلف للرأسماليات الحكومية في العالم الإسلامي يقودُ إلى استمرار العلاقات الإقطاعية السابقةِ بكلِ مخلفاتها من عجزٍ عن توحيد المواطنين، وطبع نسخ مشوهة لا عقلانية للإسلام، وإلى تقسيم الدول إلى أثنيات متصارعة، وإلى الحروب والتدخلات بين الدول الدينية هذه، التي امتلكت الحقائق الكلية واعتبرت نفسها الخادمة الأمينة لتعاليم السماء النقية، وهذا كله يقود لهدر الموارد والدوران الدائم في طاحونة التخلف.

صحيفة اخبار الخليج
3 يونيو 2009