من دون تراث ديمقراطي طويل في البلدان الشرقية لا تستطيع ملكية الدولة إلا أن تتحول إلى رأسمالية حكومية شمولية.
هناك الكثير من الآراء والمناقشات حول الثورة الإيرانية وأسباب تحولها لنظام ديني شمولي بدلاً من أن تكون حتى نظاما ليبراليا ديمقراطيا.
لقد أسس الشاه دكتاتورية الحكم وقطاع الدولة الاقتصادي الكبير، الذي تغدو فيه ملكية النفط الحكومية أداة السيطرة الكبيرة على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إن دينامية الثورة تعود للجماهير الشعبية التي شاركت فيها، لكن القوى السياسية الليبرالية واليسارية لم تفهم قوانين الأنظمة الحكومية الرأسمالية في الشرق. فصعودُ الدولة ذات القوة الكلية في المجتمع لا يمكن مقارنته بتطور الصراعات الاجتماعية في الغرب.
لم ينفصل النظام الملكي السابق عن المحافظة الدينية، وتجسيد القومية الفارسية، فجاءَ النظامُ الديني ليكمل ذلك التاريخ.
ورغم منطلقات الحزب البلشفي في روسيا، واختلافها عن أفكار حزب الجمهورية الإيرانية كثيراً، فإنه كان تتويج النظامين في توليفة واحدة: هي دكتاتورية الدولة وهيمنتها على القطاع الاقتصادي الأكبر، ثم إنتاج برجوازية (سوداء) من داخل مؤسسات النظام، وإذا تأخر ظهورها في إيران فإنها سوفَ تظهرُ لاحقاً.
“كان الضعف فى حركة العمال جزئيا نتيجة لعوامل موضوعية، فكان هناك انقسام داخل الطبقة العاملة بين أولئك العاملين فى القطاع الحديث في المصانع الكبيرة وهؤلاء العاملين فى القطاعات التقليدية في الورش الصغيرة (التي معظمها كانت تـُدار من أصحابها أو أعضاء العائلة). وكانت المناطق التي يسكنها العمالُ غالباً يسودها عدديا القطاعات البائسة من البرجوازية الصغيرة، فقد كان يوجد 750 الف تاجر ومن الطبقة الوسطى، وتجار صغار، في طهران في 1980 في مقابل 400 الف عامل في المؤسسات الصناعية الكبيرة. وكانت أعداد كبيرة جدا من العمال جديدة على الصناعة ولديهم تراث ضئيل من الصراع الصناعي – 80% منهم كانوا من أصول ريفية – وكل عام تغرقُ الاحياءُ بحوالي 330 الف من الفلاحين السابقين، وكان ثلثهم فقط متعلماً ولذلك كان قادراً على قراءة الاعلام اليساري، برغم أن 80% كانوا يمتلكون جهاز تليفزيونات. وأخيراً كان حجم القمع في ظل الشاه يعني أن عدد المناضلين الموجودين في أماكن العمل كان قليلا جداً” (الموقع: مركز الدراسات الاشتراكية في مصر).
إن التدفق الريفي على المدن هو عامل مهم في نشر الايديولوجيا الدينية المحافظة لكنه ليس هو السبب المحوري، فالبنية الاجتماعية بنية إقطاعية قديمة، والفهم المذهبي المحافظ هو نتيجة طويلة لسيطرة الإقطاع على إنتاج الإسلام، وهزيمة النزعات الديمقراطية الأولى، ولكن ذلك يتبدى بصورة كبرى مع هيمنة الأجنحة الريفية على عملية الإنتاج هذه، وهي الأشد محافظة، ومن هنا فهذا الفهم موجود في الأحزاب اليمينية وكذلك (اليسارية)، فنظراً لعدم وجود فئات متوسطة إيرانية مستقلة على مدى التاريخ السابق، إلا من لحظات ثقافية صوفية شعبية انتقادية، ومن نزعة تحررية لبعض الشخصيات الفكرية والأدبية، فإن الفهم الإقطاعي المحافظ سيطر على الحياة بكل جوانبها وبتاريخها السابق، وتقوم الدولُ ذات الملكية المركزية بإدامة هذا التراث، في لحظات تشكيل جهاز الدولة وملكياته المختلفة، إلى مستوى معين من تطور قوى الإنتاج، ولهذا وجدنا البلشفية تتصدع في زمن، كما تتصدع الماوية في زمن آخر، فلإيران البيروقراطية الدينية لحظة تصدعها القادمة، من داخل جهازها نفسه.
إن المظلة الدينية التقليدية تظلل الجميع، ولهذا ليس وجود قوى عاملة ثورية كافيا بحد ذاته، ما لم تكن ثمة قوى رأسمالية خاصة واسعة، وما لم تكن الدولة ليس في يدها معظم الثروة، فإذا كانت كذلك تستحيل الديمقراطية.
لقد قام المحافظون على مدى ألف سنة بتشكيل وعي ديني (إسلامي) مقلوب على رأسه، وقد أقاموا ثقافتهم على رفض توزيع الأملاك الزراعية على القرويين، والهيمنة على خيرات الأملاك العامة، ونشر ثقافة اللاعقل والأحكام الفقهية الجزئية العاكسة لذلك المبنى الاجتماعي، ويُكملُ هذا بإضعاف الأسرة الصغيرة الفاعلة المنتجة والثقافة العقلانية الديمقراطية.
وبهذا فإن الحزب الجمهوري الإيراني كان يواصل هذا التفرد، بادعاءات ثورية، أما النسب الطبقية الاجتماعية المعبرة عن نشوء أجسامٍ للحداثةِ في العهدين الملكي والجمهوري، فهو نشوء أغلبه استيرادي، فهذه الأجسام الصغيرة في بحر الريفيين المقتلعين من قراهم، تعتمدُ على صناعة مستوردة وصناعية نفطية (نخبوية) وصناعة استهلاكية، وهي تنمو الآن نحو صناعات أكثر تطوراً، وهذا سوف ينعكس على مجريات التطور الاجتماعي القادم.
إن قوة الثقافة المحافظة الإقطاعية كانت تتغلغل في المنشآت السياسية والاجتماعية كافة، بقيادة جهاز الدولة، وهو يقوم عبر سيطرة فئات البرجوازية الصغيرة التي استولت على السلطة بعد ركوب الموجة الثورية، بما فعله الضباط الأحرار في كثير من الأنظمة العربية، وهو توسيعُ قطاعات الاقتصاد الحكومي، وفي إيران فإن إعطاء الأجهزة العسكرية قطاعات اقتصادية يؤدي إلى توسيع الخنق السياسي للقطاعات المدنية، وإلى مخاطر الحروب.
لهذا فقد تم نمو الدكتاتورية عبر مراحل وأول مرحلة هي إبعاد اليسار، فقد كان الحضور اليساري الواسع يعرقل تحكم البرجوازية الصغيرة في المنشآت العامة الموجودة من العهد الملكي والمؤمّمة أو الجديدة، فهو يقوي الرقابة وحضور العمال المستقل والانتقادي لهذا التحكم في الثروة العامة.
وكانت مغامراتُ بعضِ فصائل اليسار وعدم فهم الفصائل الأخرى لطبيعة نظام الرأسمالية الحكومية الشمولية، يؤججان من تصاعد نفوذ البرجوازية الصغيرة التي تصعدُ سلالمَ النظام، والتي تجدُ في الصعود ثروة ومنافع ونفوذا متصاعدا، وهي تتحول بهذا إلى برجوازية كبرى، وذات يوم ستجدُ أن سقفَ النظام بات ضيقاً عليها.
ومن ثم كان ضرب الاتجاهات الليبرالية (بني صدر وحزب بازركان وغيرهما )محطة أخرى لنمو الرأسمالية الحكومية، وهو أمرٌ يعبر ليس عن ضرب العلاقات الرأسمالية الخاصة في إيران فمهما تكن توجهات الدينيين، فهم لا يقدرون على رفض هذه العلاقات لأنها مؤيدة من قبل الدين، وكان التجار عاملا مهما في تصاعد النضال السياسي، ولكنهم يرفضون تمدد الرأسمالية الخاصة وتحولها إلى نظام، وما يترتب على ذلك من نشوء نظام رأسمالي خاص بأثاثه الديمقراطي وحرياته المختلفة.
كذلك فإن النظام الرأسمالي الخاص يكون تعدديا ومنفتحا فيغدو مغايرا لمشروع الدولة القومية التوسعية أو ذات الجمهور المذهبي المفترض المنتمي إليها، فهي دولة مذهبية فوق قومية كذلك، فليس ضرب الاتجاه الليبرالي الديمقراطي هو لمجرد محاككات شخصية وتنافسية بين المتحالفين الدينيين – الليبراليين الذين استولوا على السلطة بتعاون مرحلي، بل لاختلاف المشروعين الرأسماليين: مشروع الرأسمالية الحكومية الدكتاتورية ومشروع الرأسمالية الخاصة.
ورغم أن التكتيكات السياسية لعبت دوراً في تغليب الاتجاه الأول على الثاني فإنه حتى من دون هذه التكتيكات والمناورات فإن القواعد الاقتصادية الاجتماعية الكبرى للمجتمع تعطي الدينيين الشموليين فرصة هائلة لتشكيل دكتاتوريتهم أكبر من حلفائهم في فترة ثم خصومهم في فترة لاحقة.
ليس لينين أو ماو أو الخميني، هم الذين شكلوا هذه الرأسماليات الحكومية لكنها الظروف الموضوعية التي جعلتهم، كلا في بلده وظروفه، يتوجه نحو تصعيد دور الدولة الكبرى، حسب المنظار الايديولوجي لكل منهم، وهو منظارٌ يعكس تلك الظروف الموضوعية والذاتية.
صحيفة اخبار الخليج
2 يونيو 2009