الذي مات أمس الأول هو الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري، لكن ليس اسمه هو الذي يحضر في الذهن الآن، وإنما يحضر طيف واسم رجل آخر من السودان اسمه عبدالخالق محجوب، علقه النميري على المشنقة منذ نحو أربعين عاماً، هو والشفيع أحمد الشيخ زوج القائدة النسوية فاطمة إبراهيم التي تعرفها السودان من أقصاها الى أقصاها، ويعرفها الديمقراطيون والتقدميون في العالم العربي والعالم. محجوب هو أكثر وجوه السياسة والوطنية في السودان إشراقاً وإخلاصاً ووعياً، أما الشفيع فقد خرج من صفوف عمال سكك الحديد ليؤسس للسودانيين نقاباتهم ويُدربهم على النضال المطلبي، فيجعل منهم قوة منظمة، والتف حبل المشنقة إياها على أعناق رفاق آخرين لهما. يومها كتب الشهيد الكبير كمال جنبلاط مقالاً مطولاً في «النهار» البيروتية، قرأه اللبنانيون والعرب، استفظع فيه هول ما حدث: كيف جرأ النميري أن يعلق على المشتقة عبدالخالق محجوب، وهو رجل الحوار والوعي المتقد، الذي أعطى السودان واحداً من أهم تياراتها السياسية، واستطاع بذهنه الخلاق أن يفهم الواقع السوداني من خلال المنهاج العلمي. ما زلت أذكر أن الشاعر محمد الفيتوري أتى البحرين بعد تلك الفاجعة بسنوات قليلة جداً، لعل ذلك كان في العام 1972وأقام فيها أمسيات شعرية، في المنامة وفي المحرق، وكذلك في القرى، وفي كل تلك الأمسيات ألقى قصيدته الرائعة في رثاء محجوب. واحدة من هذه الأمسيات أقيمت في إحدى قرى سترة إن لم تخنِ الذاكرة، ولم تكن شوارع معظم القرى مضاءة بعد في ذلك الحين، وفي ليلة ممطرة، لكن المطر لم يمنع الناس من الحضور الكثيف. حين همّ الفيتوري بالنزول عن المنصة في ختام الأمسية دون أن يلقي القصيدة، فاجأه الجمهور المحتشد في الصالة بإلحاح ألا يبارح مكانه قبل إلقائها. وبصوتٍ متهدج خاطب الفيتوري محجوباً: «قادماً من بعيد على صهوة الفرس/ الفارس الحلم ذو الحربة الذهبية / يا فارس الحزن مرّغ حوافر خيلك/ فوق مقابرنا الهمجية.» وعلى لسان محجوب قال: «لا تحفروا لي قبراً/ سأرقد في كل شبر من الأرض/ أرقد كالماء في جسد النيل / أرقد كالشمس فوق حقول بلادي / مثلى أنا ليس يسكن قبرا(000) لا تحفروا لي قبرا / سأصعد مشنقتي / وأغسل بالدم رأسي / وأقطع كفى / وأطبعها نجمة فوق واجهة العصر / فوق حوائط تاريخه المائلة / وأبذر قمحي للطير والسابلة». صعد عبد الخالق محجوب مشنقته بإباء الرجال وهو لما يزل شاباً، وما زلت أذكر صورة له نشرتها الصحافة اللبنانية حينها، وهو وسط الصحافيين وعلى محياه ابتسامة مُشعة متحدية بعد خروجه من المحكمة التي حكمت بإعدامه. وعاش النميري مديداً من العمر، حتى بلغ أرذله، حيث تقلب في السلطة، التي قلبت أهواءه يمنة ويسرة، فمن بزة الجنرال وعصاه، إلى عمامة التدين، ثم في المنفى قبل أن يعود في سنواته الأخيرة إلى الخرطوم. رحل النميري، أما محجوب فيبقى.
صحيفة الايام
2 يونيو 2009