مثل أي إنتاج لابد له من مادة الحياة، أي من مواد حقيقية، لكن ليس من مطاط وجلود ومياه بل من مشاعر وأفكار وتحليلات إبداعية.
ومثل الإنتاج المادي فالإنتاج الثقافي ينحرف، ويصب في أسواق ناضبة من المشترين، ويتورم في إنتاج هزيل رغم المظاهر الخارجية الفاتنة والدعاية الخلابة.
الإنتاج الحقيقي والعميق والمتصل بجذور حالات الإنسان وقضاياه لا يجد له سوقاً مزدهرة، لأن المشترين يعيشون هم كذلك في حالات من الغربة والضياع عن الإنتاج الوطني، هم مهمشين أو فائضين عن الحاجة في أجهزة دول متضخمة في الثانوي، محدودة فيما هو جوهري وغائبة عما هو تصنيعي وتحويلي للتخلف، تشكل استقطابات بين الغنى والفقر، بين المدينة والقرية، بين المادة والثقافة.
ولهذا هم يتراكضون نحو هامشيات الحياة، نحو الماديات التي تهترئ، نحو أوقات التسلية المضيعة للعقل، وتصاب الروحيات بالجفاف واللامبالاة والهامشية واليأس والأحزان والأفراح الفارغة والضياع.
غياب الإنتاجيات الحقيقية في أي بلد يدفعه للأزمات، الذهب يذهب للخارج، العملة الوطنية تترنح وتتضخم أوراقها وتقل قيمتها، يتكاثر الوسطاءُ البيروقراطيون الحكوميون وتجار العملة والأجهزة والخدم.
في أزمنة الكفاح يجد المنتجون الثقافيون أنفسهم في حالة خصب إبداعي، فهنا توازن بين تحليل الحياة ومعرفة عناصر إنتاجها وقوى تغييرها، ووجود قراء ومشاهدين مشاركين يعتبرون هذا الإنتاج جزءًا من وجودهم الجماعي، ويغدو الشاعر صوت (القبيلة) الحديثة بنضالها ومآسيها وأفراحها، ويغدو القاص كاشفاً للنقاط السلبية والإيجابية في الناس والحياة، يقيم جدل التغيير، يحس القراء أنه بينهم، يراقبهم، يشاركهم، ينفعل بما يحدث لهم، يكشف لهم ما لم يروه، يساعدهم على التطور، يغذونه هم أيضاً بملاحظاتهم، ينفعلون لأخطائه، يصوبون صوره.
ويمكن أن يطير الإنتاج الثقافي نحو التجارب والابتكارات ليكشف مناطق جديدة، ودائماً هناك مشكلة القفزة عن مستوى المتلقين، فقد يتغربُ الإنتاجُ الثقافي، ويعجزُ الناسُ عن فهمه، ويعجز المنتجُ عن الوصول إلى المستهلكين، مثل مواد الإنتاج المادي من فواكه وأزهار وحرير، قد تـُؤخذ للحريق، ويتم اعدامها من أجل أن يبقى مستوى الأسعار عالياً، رغم أن المنتج الثقافي بحاجة إلى أبسط أدوات العيش.
ويمكن كذلك أن يصير الإنتاج الثقافي منحرفاً عن طبيعته، طبيعة التلاقي البشري، وطبيعة التأثير وخلق الجمال في الحياة، فيصيرُ أمراضاً بدلاً من علاج وسمو ومتعة ونضال مشترك. الجمال في الثقافة يصبح القبح في الحياة الاجتماعية.
هنا تزدهر الأشكال الخارجية التي لا ترتبط بحقل منتج، تطلق أشباحاً تسبب الأمراض.
أغلب النقد لا يريد أن يتفاعل مع معارك الحياة، النقاد أغلبهم أساتذة جامعات وموظفون، يتطلعون لتحسين مستوى عيشهم وإلى الارتفاع في أجهزة الدول ولهذا هم يبتكرون النقد الذي لا يكشف الصراعات الاجتماعية، والسياسية، والذي لا يتوغل في أمراض البشر، ويُنزلون على النصوص هياكلَ خارجية تفضي بهم لعدم قراءة الواقع ومصائبه ومشاركة الناس التغيير.
مثل ذلك مثل وعي الجامعات العام لا يقيم جدلاً مع البناء الإنتاجي ولا يكشف الهدر الاقتصادي فيه، فلا يريد أن يتعرض هنا لمساءلة الجهات المتحكمة في هذا الإنتاج المادي.
مع عقم الثقافة يزدهر الجدب والمظاهر الخارجية الخلابة المحدودة المضامين، وتكثر الاستعراضات، والمنتج الذي فقد العلاقة مع الواقع، والذي لا يعني أن يركب باصاً ليدون ملاحظاته على التذاكر، بل أن يكشف المشكلات العميقة في الحياة، أي الأزمات الداخلية غير المرئية التي تحيل حياتهم حروباً وفقراً أو بذخاً على حساب المنتجين.
عقم الثقافة يتجسد في صعود التضخمات الروحانية والاستعراضات الصوفية وفي تفاقم كم الإنتاج على حساب كيفه أو غيابه تماماً وهو أمر يعكس فقد الروح بسبب المادة وتوسع حبسها، ويؤدي إلى تيبس الكلمة، وعدم ارتعاشاتها بالصراع والتطورات وبالفضح والسخريات وتنوع أشكالها وغياب تجريبيتها النوعية المتغلغلة في حياة الجمهور ودينه وواقعه، في تأمله المفارق ومستنقعات حياته المغمورة بالدماء.
يغدو الإنتاجُ عاقراً حين يكون مرتبطاً بجهات عليا فاسدة أو بمصالح ذاتية، صادراً عن كليشيهات مسبقة، معدومة التحليلات الموضوعية، وعن فورمات ينتجها أقطاب المذهب، الديني أو الأدبي، أو الفني، أو تحدث بسبب متابعة الموضات المفيدة تجاريا، التي يتلبسُ بها ادعاءات العملقة والابتكارات المذهلة وهي خاوية.
موجات الثقافة المتصاعدة المتراكمة النمو تتعلق بمدى جرأتها على تحليل الواقع ونقده، وهي الشرط الحاسم في بقاء الكلام أو اندثاره، فإذا تلكأت أو تراجعت يتضح ذلك في النتاج.
ولعل التطرف ومحدودية الثقافة وعدم القراءة الواسعة هي التي تجعل المبدعين يموتون في ريعان شبابهم، من دون أن تتفتق عقولـُهم عن ابتكاراتٍ ومواقف وتجسيدات ذات ذكاء تجمع بين تأصلهم واستفاداتهم من نتاجهم ومن ارتفاع مكانتهم.
وهذا يحدث حين يجدون صيغاً ذكية، فيها الطموحات الشخصية والالتزام بتعرية الواقع الفاسد، والابتكارات الفنية التي تغدو ذات شعبية.
استطاع كتاب وفنانون في الغرب والشرق خلق مثل هذه الابتكارات، كما صنع والت ديزني الذي جعل الرسوم المتحركة أداة تربية ومتعة للملايين وشركة مربحة كذلك، أو كما فعل كبار الكتاب.
فالتظاهر بالعملقة والادعاءات وتشكيل نسخ مقلدة لا تعني سوى التراجعات الثقافية، ولن ينفع هنا تجنيد وكالات الدعاية والأجهزة الرسمية، فمن المستحيل أن يقوم أناسٌ لا يريدون أي مواجهة تقدمية بخلق ثقافة.
الثقافة تعني تأصيل الجمال لا القبح، والدفاع عن الإنسان، والاستقلال عن الأجهزة الاستغلالية والحزبية المحدودة الأفق، ونكران الذات، وعدم قبول الرشا السياسية والاقتصادية، لكي يبقى الصوت صوتاً لا صدى، وحينئذٍ تتدفق الكلمة والريشة والأغنية.
صحيفة اخبار الخليج
1 يونيو 2009