المنشور

أزمة من طراز خاص ونظام من طراز جديد

يعترف كل الخبراء عمليا أن الأزمة التي يعيشها العالم اليوم تختلف جذريا عن كل الأزمات السابقة. غير أن ما يميزها ليس سعتها الكونية بقدر ما هو دورها التاريخي بالنسبة لمستقبل النظام الاقتصادي الاجتماعي. ولإدراك كنهها من الضروري مقاربتها في إطار السياق التاريخي للتطور المجتمعي. في البدء جرت مقاربة الأزمة على أنها مالية وأن من الممكن التغلب عليها بإزالة مشكلات القطاع المالي. وقد تفيد هذه الحلول بعض الشيء. لكن استمرار اعتقاد بعض المفكرين بأن جذر الأزمة يكمن فقط في عدم كمال آليات الرقابة أو في الأخطاء في عمل المنظمات المالية سيبقيهم في ضلال.
لم يفعل الجالسون في وول ستريت فعلتهم من دون إدراك، أو نتيجة أخطاء ناجمة عن جهل. إنهم أناس عرفوا كيف يصنعون، ببساطة، نقودا كثيرة من لا شيء. وهذه كانت رسالتهم التي من أجلها جاؤوا إلى هناك. مشكلاتهم تكمن في أمر آخر: في القيم والسلوك المهني. ينفخون الفقاعات ليقتنع الجميع أن هناك مالا كثيرا ويغتنوا هم دون أن يقدموا للاقتصاد العالمي شيئا ذا قيمة. ومنذ زمن طويل قال عنهم رائد الأعمال الأميركي الشهير هنري فورد الأول بدلالة: ‘يصنع الفلاح الخبز، ونصنع نحن السيارات. وبيننا يقف وول ستريت والمصارف التي تريد أن تمتلك حصة من عملنا دون أن تصنع شيئا. إنهم يتقنون عملا واحدا فقط، هو ممارسة السحر والخداع’.
انتقد المفكر العبقري كارل ماركس أبطال كمونة باريس لعدم تأميمهم المصارف والتحكم بالنظام المالي النقدي أولا. وبالعكس، رأيت مبنى المصرف المركزي لكمبوديا عندما زرتها في الثمانينات وقد سوي بالأرض بعد أن ألغى الدكتاتور بول بوت النظام المالي وتداول النقد كلية اعتقادا بأن هذه هي الاشتراكية.
وبين هذه المفارقات التاريخية يبقى أنه ليس من الصحيح الاعتقاد بأن المؤسسات المالية العاملة حاليا وما تستخدمه من أدوات مالية ‘سفسطائية وبلا حدود غالبا’ وعمليات ستظل موجودة كمكونات ضرورية بشكل مطلق. ما تفعله هذه المؤسسات أنها توجد قيما تصورية وتنشر مالا وهميا وتحدث آليات لإعادة التوزيع غير العادل للخيرات الحقيقية لمصلحتها. لكنها عن طريق النفخ في الفقاعات تنسف كل التوازنات مولدة الأزمات الاقتصادية. وإذا كان من الطبيعي والضروري أن تحدث تغييرات جذرية في القطاع المالي، فإن من الإنصاف التأكيد على أن هذا القطاع لم يكن سوى مسرّع للأزمة لا أكثر. فالأزمة الاقتصادية اليوم هي عرض لمظاهر نهاية النظام الاقتصادي الذي يقع في أساس الاقتصاد الرأسمالي.
في إطار هذا النظام تغيرت نوعية القوى المنتجة جذريا. لم يعد العامل تابعا للآلة بالقدر الذي اتسم به الاقتصاد الصناعي. تميز تطور المراحل السابقة بظهور عمال المعرفة(knowledge workers) الذين لا يشاركون فقط في إنتاج السلع، ولكنهم يسهمون في رأسمال الشركة، ويستطيعون أن يأخذوا معهم إسهامهم عندما يتركونها. وبما أن حصة ما يسمى بالأصول غير المحسوسة تتنامى بثبات، فإن العمال الأجراء بعد أن يصبحوا مالكين لقسم من الأصول غير المحسوسة، وبالخصوص المعارف، فإنهم يصبحون مالكين بحكم الواقع. ويرى البروفيسور د.أوليغ فيخانسكي، مدير معهد الأبحاث الاستراتيجية المركبة في روسيا أن هذا سينسف الجوهر ذاته للعلاقات الإنتاجية الرأسمالية ويخلق أساسا لعلاقات إنتاجية جديدة ليست واضحة النموذج بعد. وأنه إلى جانب الملكية الرأسمالية ستظهر شبه ملكية سوف يتغير مكانها ودورها باستمرار، أما أهميتها فستأخذ في التزايد[1]. وقد يحمل ذلك البعض على الاعتقاد بأن ما يحدث يعني إرهاصات نظام رأسمالي معدل بإدخال عناصر الاشتراكية عليه. وذلك يعني أن الرأسمالية في النهاية هي الحدود التاريخية لتطور البشرية، خصوصا وأن نماذج النظام الاشتراكي الذي جربته البشرية قد انهار بين قبيل مطلع تسعينات القرن الماضي. غير أن نظرية ‘نهاية التاريخ’ قد دحضت من قبل علماء جديين كثيرين، كما أن ‘فوكوياما’ نفسه أخضعها للنقد والمراجعة. وأصبح واضحا أن الإنسانية لن تقف عند مرحلة الرأسمالية مهما عدلت، ولا الاشتراكية بنموذجها السابق. المقتنعون بذلك يرون أنه سيظهر نمط مجتمعي جديد لن يكون جمعا لهذين النمطين، بل سيكتسب ملامحه الخاصة. وهنا أيضا يختلف المفكرون في ماهية نظام المستقبل، ويبحثون عن نواته في الواقع الاقتصادي الاجتماعي الحالي. يتفق معظمهم على أن النظام الاقتصادي الجديد سيقوم على نظام السوق، لأن جوهر الاقتصاد كأحد مكونات المجتمع هو خلق الخيرات وتبادلها. ويتفقون أيضا على أن الأساسين المهمين لنموذج آدم سميث: الإنسان الاقتصادي ويد السوق الخفية سيختفيان.
لكن العلماء يختلفون في رؤاهم للنموذج البديل. البروفيسور فيخانسكي يرى إضافة إلى ما ذكر أعلاه بأنه إلى جانب توسع الحركة العمالية وتمكن النقابات سيضاف أيضا تأثير العاملين الأجراء. وستنشأ اتحادات تضم هؤلاء وشركاء كالمشترين والمتعاقدين والمجتمع المحلي والمنظمات والحركات الاجتماعية المختلفة الاتجاهات بحيث يصبح المالك الأصلي واحدا من صناع قرارات المؤسسة. وستشمل هذه الاتحادات مجالات العلم والتعليم والبيئة والحركات الاجتماعية. كل ذلك سيغير نوعيا رسالة القطاع الخاص ودوره في المجتمع. وهكذا يصبح الربح نتاجا للنشاط وليس هدفه. ويرى أن دور الدولة سيتعاظم في تنظيم الاقتصاد داخليا وفيما بين الدول، وصولا إلى ‘الحكومة العالمية’. ولربما صح إطلاق تسمية الاقتصاد التحالفي على النظام الاقتصادي الجديد الذي تجري عملية ولادته الآن. وهو يرى في وادي السلكون في أميركا نواة لهذا النموذج.
أما الصين فقد طرحت نموذجها البديل الفاعل على الأرض. والذي يعتمد معايير السوق في كثير من جوانبها واحتفظت الدولة برياديتها ليس في إدارة الاقتصاد والرقابة عليه، بل وفي السيطرة المطلقة على النظام المالي وفي تشديد التزاماتها باستمرار تلبية الحاجات المادية والروحية للمجتمع. ومهما قيل عن ماهية هذا النظام فإن فلاسفته يقدمونه على أنه الذي أنقد الاشتراكية تاريخيا بعد انهيار نموذجها السوفييتي، وهو المعني في ظروف الأزمة الراهنة بإنقاذ النظام الاقتصادي العالمي، وعلى أنه نموذج اشتراكية القرن الحادي والعشرين.

[1] انظر: »Expert« ، 11 مايو/ أيار 2009
 
صحيفة الوقت
1 يونيو 2009