ومتابعة إلى ما سبق وأن عرضنا له من قبل، وإذا ما استوعبنا حجم وعمق التخلف الحضاري الذي تعيشه شعوبنا ودولنا والذي هو ليس بالضرورة وليد أحداث أو حروب إقليمية معاصرة واتفاقيات تاريخية أو حتى مؤامرات خارجية كما نحاول أن نريح عقولنا وضمائرنا أحيانا، وإنما هو عبارة عن تراكم كمي ونوعي لعقود بل قرون طويلة عاشتها مناطقنا ومحيطنا العربي تحت رحمة ما أسلفنا من تراجعات وتفاعلات ثقافية وحضارية داخلية وخارجية لم تهدأ ولا زال زخمها حاضرا وبقوة، حتى بات اقتلاعها ضربا من الخيال الذي يجب أن لا يراهن عليه الليبراليون المنعزلون حتى الآن كما ذكر الباحث في أحزابهم وتجمعاتهم ومؤسساتهم المدنية وصحفهم ومجلاتهم، فهو يرى ونحن معه إلى أن جزءا كبيرا من مشكلة التيار الليبرالي ومعهم مجتمعاتنا العربية هم الليبراليون أنفسهم، وهناك فجوة كبيرة من الاتساع والعمق تفصل التيار الليبرالي عن شارعه العربي وتمنعه من التأثير والالتحام مع هموم البسطاء والدخول إلى قضاياهم اليومية، بالإضافة الى فشل التيار الليبرالي في صياغة خطاب سياسي يكون قادرا على اجتذاب قطاعات شعبية واسعة، والنزول من برجه العاجي إلى الشارع إلى حيث الالتحام مع قضايا الجماهير وهمومها، وأن هناك اختلالات بنيوية وأقوالا فكرية أيضا في خريطة ونهج التيار الليبرالي بكل تجلياته في مجتمعاتنا العربية، بالرغم من تفاوت الخبرات التاريخية والسياقات المحلية فيما بينها، إلى جانب ضعف التقاليد السياسية والديمقراطية لدى بعضها، وهشاشة النخب القيادية وغياب الرؤية، ووحدة الصراعات الداخلية، وضعف تقاليد الحوار والجدل الخصب، والتقوقع والانغلاق، وافتقاد التيار الليبرالي للنزعة التوافقية مع مختلف القوى والتيارات الأخرى، وهي ميزات تعزز من محاولات عزله وتهميشه وتسهّل من تحجيمه أيضا رغم ما يمتلكه من قدرات كامنة هائلة يبقى عاجزا عن توظيفها بكل تأكيد. وحيث أن ما اسماه الباحث بالكيمياء العالمية أصبحت تتجه نحو التعددية والاختلاف التي هيأ لها عصر العولمة الذي نعيش فصوله ونتأثر بتحولاته، فان الليبرالية تبقى الملاذ الأخير لمجتمعاتنا التي تنصرف بجنون وهوس إلى مستنقعات الطائفية والقبلية والعشائرية، وهو هنا يعتبرها بعضا من نقاط القوة التي يمتلكها التيار الليبرالي، بخلاف ما تدفع باتجاهه القوى الدينية وقوى الإسلام السياسي تحديدا وذلك نتيجة لطبيعة تكويناتها وتوجهاتها التي لم تعد لغزا عصيا على الحل أو الفهم وبحسب ممارساتها اليومية على الأرض. وهنا يخلص إلى نتيجة يجدر تأكيدها، وهي “أن التباطؤ والنكوص في تحمل التيار الليبرالي للمسؤوليات المناطة به وبدوره التاريخي سوف ينحدر بمجتمعاتنا العربية إلى مستنقعات لن ينجو منها احد، وستكون ملآى بالحروب الأهلية والطائفية والعشائرية والعودة بمجتمعاتنا إلى ما قبل العصور الوسطى، ويشي بذلك التحالف الخفي والمعلن القائم الآن بين بعض النخب الحاكمة وتلك القوى المهيمنة بسطوة خطابها ومواردها المسخّرة وإمكانياتها وما تمتلكه من مساحات حرة للحركة والتوسع على حساب تقلص القوى الليبرالية” التي فشلت ومنذ منتصف القرن الماضي في بناء توافقات سياسية ديمقراطية فيما بينها وهي التي تختزن مقومات نهوض مجتمعاتها، فيما يستسلم بعضها لنوازع شتى تتباين بين تهافت وانتهازية مغلَفة أو فاقعة أو ذوبان وتحلل، فيما توفره التيارات المهيمنة من مغريات جوفاء لا تعدو أن تكون سرابا خادعا سيفضي لا محالة إلى مزيد من التمزق الداخلي والإضعاف للقوى الليبرالية، وبالتالي يعجّل بانحدار وتخلف مجتمعاتنا إلى فوضى عارمة وأزمات سياسية واجتماعية واقتصادية لا تجد من يتصدى لها بشكل مسؤول بعيدا عن حسابات وتهافت المصالح التي باتت تحكم واقعنا العربي مما سيفضي إلى مزيد من التراجع الحضاري وعلى كل المستويات.
صحيفة الايام
31 مايو 2009