شهد الأسبوع الماضي مرور تسعة عشر عاماً على إعادة تأسيس اليمن الموحد ( 22 مايو / أيار 1990) حينما تفكّكت تدريجياً وضعفت ما كانت تسمى؛ ‘’ جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية’’ (اليمن الجنوبي) نتيجة وضع دولي غير مؤاتٍ لإستمراريتها. وبضغط سياسي وعسكري من قِبَل ‘’الجمهورية العربية اليمنية’’ (اليمن الشمالي) نحو وحدة الأراضي اليمنية، الأمر الذي أدى إلى فرضِ نوعٍ من الوحدة القسرية بين الإقليمين اليمنيين المختلفين – إلى حد ملحوظ – سياسياً، اجتماعياً، ثقافياً، مؤسساتياً، نهجاً.. وغيرها من العوامل، وما ترتب على ذلك – بعد الحرب القصيرة بين الإقليمين في صيف 1994 – من هروب قادة الحزب الاشتراكي اليمني الحاكم في ‘’عدن’’ للخارج ، وإصدار أحكام الإعدام -غيابياً- على أبرزهم.
لقد تزامن يوم ذكرى الوحدة مع ذروة استفحال الاحتقان والمواجهات بين الجنوبيين والقوات النظامية، التي كانت تجري منذ بعض الوقت، أدت إلى سقوط مجموعة من القتلى المدنيين المحتجين، على يد الشرطة في المحافظات الجنوبية. استمعنا في نفس الوقت لخطابين متعارضين بالمحتوى في خضمّ تلكم الاحتفالات الشمالية والاحتجاجات الجنوبية.. كلمة الرئيس اليمني ‘’علي عبدالله صالح’’، الذي ألقى باللائمة على من سماهم بـ’’أعداء الوحدة’’ و’’مشجب’’ الاستعمار! وكلمة الرئيس الجنوبي السابق من منفاه الأخير في ألمانيا؛ ‘’ علي سالم البيض’’ ، الذي دعا بشكل مباشر” لإعادة كيان الجمهورية الجنوبية المستقلة، بمنأى عن الهيمنة والاحتلال واستحواذ الشماليين، مضيفاً أن الوحدة شكلت دائماً حلم اليمنيين جميعاً، لكن يجب أن تتم على أساس الحب والاختيار الطوعي، بنهج مؤسساتي وديمقراطي، بُغية الاستدامة المضمونة للوحدة المأمولة”.
إنه لأمر مؤسف أن يحدث هذا، ليس بين شعبين عربيين فحسب بل بين شعب يمني واحد! ولكن ألا يدل هذا على البَون الشاسع، الفاصل بين الحلم والواقع ، المتعلق بالمصير الوحدوي المشترك بين العرب ؟ ! لعل ما تمخضت عنه تجربة الوحدة اليمنية ومن قبلها التجارب الوحدوية العربية الفاشلة من مرارة وإحباط هي في الواقع تحصيل حاصل وامتداد لنهجين مغايرين لتحقيق الحلم العربي في الوحدة، منبثقين من مدرستين سياسيتين متعارضتين؛ المدرسة القومية / البعثية، التي دعت ومازالت إلى الوحدة الفورية الفوقية القسرية (البسماركية ( والاشتراكيين العرب ( الماركسيين خاصة ) الذين انطلقوا من البُنية الموضوعية وتباين تركيبة الأقطار العربية؛ التاريخية،الاجتماعية،الاقتصادية والثقافية في عصرها الحديث والمعاصر واختلافات تشكيلاتها -غير المتكافئة- التي حدثت نتيجة صيرورة تاريخية امتدت لقرون طويلة، مروراً بفترة السيطرة العثمانية ثم الاستعمارية الغربية. بالإضافة إلى أن الطرح الأخير ينطلق من مبدأ حرية الاختيار الديمقراطي والتدريجي، الأسلم والأضمن من الناحية الإستراتيجية لنجاح الخطوات الوحدوية المتّبعة.
كلنا نعرف كم من الدماء سالت في دروب آلام ‘’ الوحدة’’ العقيمة تلك ؟ وكم من الجماجم قد تكوّمت على سكة الصراع الدموي بين الفرقاء السياسيين، بلا أية فائدة تذكر عدا خسائر بالجملة لكل الأطراف؟ وكم من الطاقات قد صُرفت هباء منثورا بلا أي مردود حياتي على الأرض، عدى تجذير الاستبداد العربي المعاصر، المتمثل في النماذج السيئة من ‘’الجمهوريات القومية ‘’( لا تشذ اليمن عنها )، التي ما فتئت تعيد إنتاج نهجها الديكتاتوري وفكرها العصبوي؟!
لعل الأسئلة / الهواجس التي تدور في خواطر الناس عديدة ومحورية.. ولكنها تتركز -جميعها- حول ‘’صنم’’ الوحدة و’’قدسيتها’’، إن جاز التعبير! بمعنى أن الوحدة العربية، حسب التحليلات المطروحة من آراء في الصحافة وغيرها ( حتى عند بعض الراديكاليين التقدميين) ،هي الحلم المقدس الذي لا يمكن التنازل عنه تحت أي ظرف! بينما الضرورة تستدعى النظر إلى الوحدة (أية وحدة) من منظور المحتوى وليس الشكل، من منظور التقدم والمصلحة العامة وليس عكسهما.. وهذا الاستنتاج لابد أن يقودنا إلى أن مفهوم’’المقدس الاجتماعي’’ إن وُجد، فإنه يجب أن يتضمن جوهر أمرين لا ثالث لهما، وهما ؛ ‘’الحق’’ و’’الحرية’’ الإنسانيين! وكل ما عداهما من القيَم لا تتعدى أن تكون ‘’ديكورات’’ مثالية، إن لم تفض جميعها إلى حرية الإنسان وحقه في العدل. هذا الرأي- بالطبع- لا يعني أنه يدعو إلى الانفصال، ولو أن مبدأ الانفصال ( نقيض الوحدة) حق وضرورة في حالات استثنائية، مَثَله كمثل مبدئي الزواج والطلاق، المشفوعين بالآية القرآنية السمحة ( إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)!
أكاد أميل إلى إفصاح – من مردود حساب الربح والخسارة – أن الوحدة القسرية اليمنية، التي بدأت في 1990 وفُرضت عسكرياً في حرب 1994- بالرغم من رمزيتها ومعنويتها الايجابيتين- أضحت تشكل عبئاً ثقيلاً، ذي مردود سلبي على المصلحة الحقيقية للشعب اليمنى؛ تقدمه، حريته، مؤسساته الدستورية وطرق توزيع ثرواته .. الخ. وذلك أن الوحدة القسرية هذه قد أسهمت -من حيث لا تريد- في تقوية الموروثات القبلية والثقافات المتخلفة والفئوية، وأطالت من النهج الاستبدادي للنظام، الذي فرّخ الفساد والمحسوبية والفئوية من ناحية وعضد الفكر السلفي / القبلي من ناحية أخرى، انطلاقاً من تركيبة التربة الشمالية المؤاتية للتطور السلبي الرجعي، على حساب الجنوب، المتميز بانفتاحه الاجتماعي، عصريته النسبية وتجربته المتميزة، حيث استأسد الشماليون في السيطرة على الجنوب واستغلال خيراتهم وثرواتهم من نفط وأراض وتجارة وغيرها من الأنشطة الاقتصادية المختلفة.
الخلاصة أن اليمن قد يدخل في نفق مظلم إن لم يسارع الحكم والنخب السياسية في فهم جذور المشكل اليمني بجميع أبعاده وضرورة البحث عن حل جذري، بُغية تفادي الانزلاق نحو المجهول. والعمل الجاد في الإتيان لصيغة وحدوية جديدة تكون أقرب إلى وحدة فدرالية، تتمتع فيها الأقاليم الجنوبية الغنية بحقها النسبي في التصرف بثرواتها وأراضيها، السبيل الوحيد لمراضاة الجنوبيين وحقوقهم المشروعة من أجل إغلاق أبواب تبعات وتداعيات التشظي المحدقة باليمن ..
لنا وقفة في سانحة أخرى لتكملة تفاصيل ‘’المعضلة اليمنية’’ !
الوقت 30 مايو 2009