لعبت ثورة تموز عام 1958 دوراً كبيراً في دفع شخصية صدام حسين لاحتراف العنف كطريق سياسي رئيسي. كما تعبر هذه الثورة الانقلابية العسكرية عن تحول الجيش المؤسسة العسكرية إلى أداة السيطرة الأولى على الحياة الاجتماعية فدخلتْ فيه الصراعاتُ الطبقية ومزقته.
لم تكن ثمة قوة تغيير وطنية أخرى، ولم تتحول أي قوة سياسية إلى تشكيل جبهة وطنية لإحداث تغييرات إصلاحية حتى داخل النظام الملكي، فالأحزاب العراقية في حالة عراك دائم، خاصة بين الحزبين البعثي والشيوعي، فالأول رغم صغره يتنطع للقيادة عبر أسلوب العنف الذي صار هو سمة الحياة السياسية، والثاني يتمدد عبر النمو السياسي الجماهيري، من دون أن يحول هذا النمو الواسع إلى خطة تغيير للحياة السياسية وإلى تغيير في النظام عبر فرض إصلاح زراعي وغير ذلك من إجرءات أساسية ديمقراطية لقطع طريق العنف الدامي الذي يعدهُ البعث للعراق. فكان هو نفسه أي الحزب الشيوعي معبأ بمثل هذه الهواجس الصدامية العنفية من دون أن يمتلك المبادرة والجرأة لانتزاع السلطة، فغدا ذيلياً للقوى المتحكمة وهذا طريق رفضه البعث رغم جسمه السياسي الصغير.
إن قطع الضباط الكبار في الجيش العراقي تنامي العملية السلمية واستيلاءهم على السلطة قد فتحَ البابَ واسعاً لتدفق الصراعات العنيفة، فهؤلاء الضباط لم يكونوا على دراية عميقة بالبناء الاقتصادي، ولم تكن لهم مؤسسات سياسية مهمة وذات تفتح وعقلانية، واستلموا السلطة وحصروها في ذواتهم الفردية الرهيبة، رغم أن منظمة الضباط الأحرار جذبت تيارات سياسية عديدة كان فيها بعثيون وقوميون وهم الذين غدوا قوة الحركة المنظمة، وبهذا الاستيلاء تمت الإطاحة بالنظام الملكي ذي المراكز المتعددة، وذي الديمقراطية المحدودة ولكن المفيدة، التي أُجهضتْ عبر صعود قوة شمولية عسكرية تركزت في مجموعة قليلة من الضباط فتحت البلاد على مصاريعها للصراعات الدموية.
وبدت هشاشة تنظيم الضباط الأحرار العراقيين من خلال الشخصيات الكبيرة التي أمسكت مقاليد السلطة، التي لم تكن لها دراية بالقيادة السياسية لجهاز الحكم، وليس لديها خطط للتغيير، ولم تحافظ حتى على كيان تنظيم الضباط الأحرار، وغدا الرجلان البارزان فيها عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف، يتصارعان ويدبران المؤامرات أحدهما للآخر، وساند الشيوعيون عبدالكريم فيما ساند البعثيون والقوميون عبدالسلام، وهكذا تمزقت القوى الوطنية ذات العقول الضحلة الهشة، وطمح كلٌ منها لافتراس الآخر.
أدت هذه الموجة إلى بروز أحمد حسن البكر كأكبر ضابط بعثي في الجيش، ولم يكن بنفس الطرق الدموية المغامرة مثل صدام، لكنه صار المظلة التي ينمو تحتها بعض السياسيين خاصة من ذوي الأجرام والشهية الدموية كناظم كزار، هذا الرجل الذي مهد الطريق لصدام وعلمه الطرق الكبيرة في سلخ المعارضة الشيوعية خاصة، ووسع صدام السلخَ على الجميع بمن فيهم البعثيين. فبدأ الظهورُ الكبيرُ لـ (مسلخة) العراق وليس لجمهورية العراق المزعومة.
عبر أحمد حسن البكر انفتحت الطريقُ نحو السلطة لصدام، ولكن هذا الطريق كان مفروشاً بعمليات الاغتيال الواسعة لإزالة العقبتين الكبريين اللتين تتحكمان في السلطة عبدالكريم وعبدالسلام.
فصدام حسين المهمّش قفزَ إلى مقدمة المسرح عبر عملية اغتيال عبدالكريم قاسم، وكان مساعداً في تنفيذ العملية لكنه أفسدها باقتحامهِ موكب عبدالكريم رئيس الوزراء وقائد الجيش قبل رفاقه وإطلاقه الرصاص قبل خروج زملائه في هذا العمل الذي لم يمت فيه عبدالكريم. كان هذا تعبيراً عن رغبة متأصلة وإجرامية في تصعيد الذات، وتصعيداً لمضمون الحزب الغائر، باعتبارهِ حزبَ التصفيات والمغامرات الكبرى. وكان هذا عملاً محفوفاً بالمخاطر ولو نجحَ لفجر حرباً أهلية كارثية، ولكن قيادة البعث وصدام لم يكونا يهتمان بمثل هذه النتائج. صحيح إن هذا كان رداً على قمع الدكتاتور قاسم الدموي للمتمردين على سلطته لكن هذا العمل كان يعني ولادة الفاشية بشكل رسمي.
وبهذا وضعَ صدام قدمَهُ على العتبة الأولى لمنهجهِ السياسي، باعتمادِ القتل طريقاً، فتداخل طموحُ الحزب المغامر وطموحُ الزعيم القاتل. وكان فرارهُ من العراق ومرورهُ بسوريا والتقاؤه بميشيل عفلق، وكان هذا اللقاء تعبيراً عن فلسفة الجريمة كما جرت في رواية(الأخوة كرامازوف)، حيث يقومُ الأخُ المثقف بتصعيدِ الأخ المجرم، وفي حين يتوارى المثقف وراءَ جملٍ فكريةٍ منمقة، يقوم الأخُ الوضيع بتنفيذ الأعمال الدموية. وسرعان ما أعطى عفلق بركاته لهذا الهارب المجهول، ورفعهُ مقاماً علياً. وبفضلِ هذه البركة فـُتحت له طرق اللجوء لمصر والحصول على شهادة لإثبات قدرته على أنه مثقف كذلك، من دون أن يتحول فعلاً إلى مثقف.
بابتعاده عن العراق تمكن البكر من تجنب أعمال صدام الطائشة، وراح يستفيد من مركزه في منظمة الضباط الأحرار في نسج التحالفات للتخلص من قاسم، ولم يكن متسرعاً في ذلك، بل ترك الضابطين الكبيرين قاسم وعبدالسلام يستنزفان نفسيهما في صراع طاحن، فسحق عبدالسلام قاسماً، وتولى السلطة، وما لبث أن مات في حادث طائرة وقال العراقيون بالعامية؛ (طار لحمْ ونزل فحمْ)، وكان البديلُ أخاه عبدالرحمن العسكري العاطل عن الفعل والتأثير، الشبح الذي تولى السلطة قامعاً للبعثيين والشيوعيين مرة ومطلقهما مرة أخرى. وقد نجا واستفاد عبدالرحمن هذا وصار مستثمراً لم يُضرب بفأس وختم حياته بارتياح في المنفى.
لا ننسى بطبيعة الحال هنا المجرزة التي قام بها البكر وبترتيب ناظم كزار للشيوعيين في سنة 1963، حيث تم الذبح في الشوارع وفي دواخل البيوت للرجال والنساء والصغار بإطلاق النار مباشرة بدون أي كلام، ومرة أخرى يتم تشجيع مثل هذه الأعمال في المنطقة ويتم تغذية الوحش السياسي الصاعد في بلاد ما بين النهرين.
وبهذا فإن البكر وفّر غطاءً لقدوم صدام من مصر، واستعادة موقعه في الحزب، وهو يتركه فترة ثم يستدعيه، وفجأة يحوله إلى ساعده الأيمن. كان هذا شكلاً آخر لطريقة عفلق في تصعيد العوام للمناصب الخطرة، وهم خاصة العسكريين الذين التهموا السياسيين المدنيين بعد ذلك. لم يكن البكر يحبه بل وجده شخصية مدنية يمكن أن تصد التهام العسكريين له.
وأسرع صدام في وضع ناظم كزار عبقري الذبح تحت إمرته، وبهذا تجمع رجلان في منتهى الخطورة تحت سقف مكتب واحد هو قيادة منظمة التجسس والاستخبارات المُسماة (حنين)، ورغم أصداء الاسم الرومانسية وعلاقته بتغرب صدام وحنينه للوطن والدماء، إلا أن المنظمة كانت شيئاً آخر، كانت أخطبوطاً راح يتغلغل في كل خلايا الحياة السياسية، بما فيها حزب البعث نفسه، متتبعاً الهمسات والعلاقات، ثم منشئاً مراكز في كل المدن، مجنداً العملاء في الطوائف المختلفة.
ثم استغل حزبُ البعث هزيمة يونيو سنة 1967 وصوّر نفسَهُ المنقذ القادم للعرب من الهزائم، والمنشيء لحكم يهزم إسرائيل ويزيح الصهيونية من المنطقة، وهي الحجة التي كررها كثيراً في المغامرات التالية كافة.
صحيفة اخبار الخليج
27 مايو 2009