يعد كل من الالماني كارل ماركس والانجليزي تشارلز داروين من جيل واحد تقريبا، فالاول ولد في عام 1818 وتوفي في عام 1883 فيما ولد الثاني في عام 1809 وتوفي عام 1882، وكل منهما أسس نظرية ارتبطت باسمه أحدثت عاصفة عالمية من الجدل المحتدم بين مؤيد ومعارض مازالت زوابعها تتجدد بين الفينة والاخرى حتى يومنا هذا على الرغم من مرور زهاء أكثر من قرن ونصف القرن على كلتا النظريتين اللتين ظهرتا أيضا في وقت متقارب. ماركس ارتبط اسمه بالنظرية التي اقترنت باسمه ألا هي النظرية الاشتراكية أو النظرية “الشيوعية” التي ظلت على امتداد عقود طويلة لا يقترن اسمها في بلدان عديدة، وعلى الاخص البلدان العربية والاسلامية، الا بالالحاد فقط، وذلك لانها تقوم على الماديتين الديالكتيكية والتاريخية في تفسير الكون وفي تفسير التاريخ وتطور المجتمعات. أما داروين فقد ارتبط اسمه بالنظرية التي اقترنت باسمه ألا هي النظرية الداروينية وذلك على اثر صدور مؤلفه الشهير “أصل الانواع”، الذي أحدث حينها ضجة عالمية من الجدل وعلى الاخص في اوروبا بين مؤيد ومعارض وتمر هذه الايام ذكرى مرور 150 عاما على ظهور هذه النظرية أو صدور كتابه المشار اليه.
مفاد أو زبدة نظرية ماركس باختصار شديد تقوم على التفسير المادي للتاريخ والمجتمع والطبيعة معا، وان العلاقات الاقتصادية، وتحديدا علاقات الانتاج، تحتل المرتبة الاولى في علاقات المجتمع، ومن ثم فإن الاقتصاد السياسي، أو علم تطور علاقات الانتاج هو من ركائز النظرية الماركسية الاساسية، وتعد الماركسية نظاما منسجما من المفاهيم العلمية المتعلقة بالقوانين العامة التي تتحكم بتطور الطبيعة وبالمجتمع وبانتصار الاشتراكية والوصول الى المرحلة الشيوعية المرحلة الاكثر تطورا من الاشتراكية. وبهذا يمكن القول ان ماركس يعتبر الصراع الطبقي هو المحرك الرئيسي للتاريخ، وان تاريخ المجتمعات حتى يومنا ليس سوى تاريخ للصراع بين الطبقات، وهو صراع يحتدم في المجتمعات الرأسمالية الى درجة الثورة العمالية التي تقضي على الملكية الخاصة لوسائل الانتاج لتؤسس نظاما جديدا يقوم على الملكية العامة هو النظام الاشتراكي.
أما مفاد أو زبدة نظرية العالم البيولوجي داروين المعروفة بالداروينية أو نظرية التطور فتقوم على ان الانواع الحالية من الحيوانات والبشر لم تظهر أول مرة بأشكالها المعاصرة وانما مرت بتطورات متدرجة عبر ملايين السنين.
لم يستند داروين في نظريته الى مجرد أبحاث علمية نظرية أو معملية، بل لعبت رحلته المشهورة على السفينة “بيجل” التي استمرت خمس سنوات دورا في الانتهاء الى تلك النتائج، حيث لاحظ الروابط الجيولوجية بين الحيوانات الحالية والحيوانات المنقرضة في أمريكا اللاتينية. وفي كتابه “أصل الانواع” الذي صدر عام 1859 وزلزل العالم حينذاك، وعلى الاخص لدى الاوساط العلمية والفلسفية والدينية، يبين ان ثمة علاقة نسب بين الفصائل الحيوانية وان بعضها ينحدر من بعض تحت تأثير عوامل البيئة المحيطة، وان الاصطفاء او الانتخاب الطبيعي هو الذي يفضي الى بقاء الاصلح منها والاقدر تكيفا مع البيئة.
ومع ان بعض العلماء مثل ارنست هيكل قد بنى على نظريته ان الانسان “أصله قرد”، إلا ان داروين لم يتلفظ بهذه العبارة قط. وبالرغم من ان الماركسيين أيضا خلصوا من نظريته التي استفادوا منها كثيرا بتوظيفها لاثبات صحة الفلسفة المادية بأنه كان ملحدا فإنه رفض اتهامه بذلك: “لم أصل أبدا الى الإلحاد بالمعنى الصحيح لهذا اللفظ، أي انكار وجود الله، لكني أعتقد على وجه العموم وكلما امتد بي العمر ان الوصف الادق لحالتي العقلية هو اللاأدرية”.
والطريف في الأمر ان كلا التيارين الرأسمالي والماركسي استفاد من نظريته لكن على طرفي نقيض، فلئن كان التيار الثاني قد وظف خلاصات نظريته لاثبات صحة المادية الديالكتيكية التي تفضي الى الإلحاد، وانتقد التيار الماركسي طريقة تفكيره البرجوازية، فإن فريقا من علماء ومفكري التيار الاول (الرأسمالي) لم يتوانوا عن توظيف خلاصاته في الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح في الحياة الطبيعية بتعميمها على الحياة الاجتماعية لتبرير وترويج نظرياتهم العنصرية المتعالية للحط من الطبقات الدنيا والاعراق غير البيضاء، وعلى الاخص السوداء، باعتبارهم أقل ذكاء وأقل قدرة على التكيف مع الحياة الاجتماعية التي لا تناسب إلا الاصلح والاكثر ذكاء وتفوقا من البشر.
وفي الذكرى الـ 150 على صدور مؤلفه “أصل الانواع” يتفجر من جديد الجدل حول هذا الكتاب حتى ان أكثر من 600 عالم بارز في البيولوجيا والكيمياء والفيزياء والرياضيات في الولايات المتحدة وعدد من البلدان الاوروبية وروسيا وجهوا نداء بالتخلي عن تدريس نظريته في المدارس والجامعات، ناهيك عن معارضة رجال الدين، فيما يطالب فريق آخر بتدريس النظرية والمعارف الدينية على حد سواء. وفي روسيا، وعلى الرغم من مرور ثلاثة أرباع القرن على نفي الدين الذي اتبعه الحكم الشيوعي السوفييتي السابق، ثمة اهتمامات متزايدة بالمعارف الدينية وبرزت مؤخرا مطالبات بتدريسها، ولو من باب الاحاطة بها، في المدارس والجامعات من دون ان يعني ذلك الإخلال بالأسس العلمانية للدولة.
صحيفة اخبار الخليج
26 مايو 2009