لست في صدد الحديث عن فصل الدين عن الدولة، فمثل هذا الفصل غير وارد في نظامنا الدستوري، الذي يقرر أنّ دين الدولة الإسلام وأنّ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع… وإنما سأتوقف أمام مساوئ محاولات تسييس الدين واستخدامه أداة من أدوات العمل السياسي… فالدين إلهي مقدّس ومطلق وثابت، في حين أنّ السياسة نشاط بشري، والمواقف السياسية تتسم بالنسبية وبالتغيّر وعدم الثبات… كما أنّ للدين منطقه في التحليل والتحريم، في حين يقوم منطق السياسة على الصواب والخطأ في التقديرات والمواقف… ومن هنا لا يصحّّ تسييس الدين واستغلاله كأداة في الصراع السياسي.
وأمامنا آخر نماذج إساءة استخدام الدين كمادة في الصراع السياسي والتنافس الانتخابي، حيث أعلنت «الحركة السلفية» على لسان عضو مكتبها السياسي مشعل المعلث «إنّ التصويت للمرشحات لا يجوز شرعاً، ويدخل في دائرة الإثم كل مَنْ منحهن الصوت، لأنّ ذلك الصوت قد يؤدي بهذه المرشحة أو تلك إلى عضوية المجلس التشريعي التي تعتبر من الولايات العامة الخاصة بالرجال فقط دون النساء… وأنّ هذا الرأي الذي صدر من المكتب الشرعي للحركة السلفية يتسق مع الفتاوى العامة لعلماء الأمة الأفاضل حول عدم جواز تولي المرأة للولايات العامة، وكذلك يتسق مع الموقف العام للحركة السلفية الرافض لإقحام المرأة في عملية الترشح للمجالس النيابية، فنحن مع حق المرأة بالتصويت ونرى أن الترشح تعدٍّ وتجاوز للنصوص الشرعية التي تحظر ذلك»!
وبالطبع ما كنت لأتوقف أمام مثل هذا البيان لو أنّه صدر عن جماعة إسلامية دعوية كـ «جماعة التبليغ والدعوة»، فهذا حقّها وهذا شأنها، ولكن هذا البيان صدر عن «الحركة السلفية» بوصفها بالأساس حركة سياسية تخوض الانتخابات، ومع ذلك نجدها في هذا البيان وغيره تستند إلى الفتاوى فتحرّم ما تحرّم وتُؤثّم مَنْ يخالف توجهاتها.
والمفارقة الصارخة، التي تؤكد حقيقة أنّ السياسة شأن متغير ونسبي وليست أمراً ثابتاً ومطلقاً مثلما هو الدين، أنّ «حزب الأمة»، الذي انبثقت غالبية مجموعته التأسيسية من رحم «الحركة السلفية» نفسها، قد كان المبادر في فبراير من العام 2005 بإعلان موافقته على الإقرار بالحقوق السياسية للمرأة انتخاباً وترشحاً وذلك قبل أن يقرّ مجلس الأمة تعديل المادة الأولى من قانون الانتخاب في هذا الشأن، وجاء في البيان الشهير الذي أصدره الحزب في ذلك الحين إن «حزب الأمة ليدعو مجلس الأمة والحكومة إلى إقرار المشاركة السياسية للمرأة والالتزام بالضوابط الشرعية والأعراف المرعية اجتماعياً»… وإنّ الحزب يدعم «مشاركة المرأة السياسية انتخاباً وترشحاً، وذلك استناداً إلى النصوص العامة للشريعة الإسلامية وفتاوى العلماء المعاصرين الذين اختاروا هذا الرأي».
والمفارقة الأهم أنّ كلا الموقفين السياسيين لـ «الحركة السلفية» و«حزب الأمة» قد استندا إلى فتاوى العلماء ومع ذلك فقد خرجا بنتائج مختلفة، بل متناقضة، حيث نجد «الحركة» تحرّم وتؤثّم ترشح المرأة والتصويت لها بينما «الحزب» يبيحهما ويدعمهما!
أما عندما نستذكر موقف «الحركة الدستورية الإسلامية – حدس»، التي هي واحدة من أهم وأقدم الحركات الإسلامية، فنجد أنّها أشارت أول الأمر إلى بعض المنطلقات الشرعية لمحاولة تبرير معارضتها لنيل المرأة حقوقها السياسية الكاملة، ثم تخلّت «حدس» بعد ذلك عن تلك المنطلقات الشرعية وأعلنت أنّها تنظر إلى ممارسة هذه الحقوق من زاوية الاعتبارات والتقاليد الاجتماعية، وهو أمر مفهوم يمكن قبوله أو رفضه!
وهكذا نجد أنّ ثلاث حركات سياسية إسلامية تتخذ ثلاثة مواقف سياسية متباينة ومتفاوتة تجاه هذه القضية، وربما يتكرر الأمر ذاته تجاه قضايا غيرها، مع أنّ كلّ حركة من هذه الحركات السياسية الإسلامية استندت في تحديد موقفها السياسي إلى فتوى أو إلى مجموعة من الفتاوى، وهذا في حدّ ذاته دليل واضح ومثال ملموس على ما ينطوي عليه تسييس الدين من خلط غير مستحب والتباس غير مرغوب بين الدين، الذي هو إلهي مقدّس ثابت ومطلق، وبين السياسة، التي هي أمر بشري يتسم بالتغيّر والنسبية وعدم الثبات!
جريدة عالم اليوم 5 مايو 2009