حين حدث الانقلاب على الأسس الاجتماعية للحكم في “الفتنة الكبرى” وما بعدها من نتائج استمرت إلى يومنا هذا، انقلبت تلك الأسسُ رأساً على عقب.
لم يكن ثمة ضرورة لأحزاب تقوم على أساس ديني، لأن الحكم هو للأغلبية الشعبية، وكان كبار الأغنياء قد أُبعدوا عن السيطرة على السلطة، ولهذا لم يخطرْ في بال عامة المسلمين أن تظهرَ أحزابٌ سياسية دينية، لأن الإسلام هو صوتُ الأغلبية العاملة.
وفي بداياتِ الانشقاق اعتبرتْ الأحزابُ السياسية المتوارية تحت لافتاتٍ دينية، انها مع ذلك الميراث الرافض للأحزاب السياسية الدينية التي تمثل خروجاً عن دربِ السلف.
أخذت فئاتُ كبار الأغنياء التي وصلت إلى السيادة السياسية في صفوفِ مختلفِ الفرقاءِ المتصارعين على الحكم والثروة، وراحت تصورُ نفسَها أنها الوريث لما قامتْ بتحطيمهِ وإلغائهِ من التاريخ لجماعة المسلمين.
وحين جاءَ أي حكم مذهبي سياسي في هذه الطائفة أو تلك قام على أساس الهيمنة الطبقية نفسه، فيصور نفسه بأنه الممثل للدين الحقيقي، وفي ذات الوقت له خزائنه المليئة بالمال والسندات والأراضي، وحين تقول فئة انها ممثلة الإسلام تقوم باحتكار الثروة العامة وتحويل حزبها العسكري السياسي إلى القوة المهيمنة على العاملين. كان ذلك كله هو تاريخ الأغنياء الحاكمين المحدودي العدد بين أغلبية الفلاحين والبدو والفقراء.
وفي ذلك التاريخ تكونت جذور الجماعات الطائفية السياسية المعاصرة، فكانت الجماعاتُ السابقة تقتطعُ خيوطاً صغيرة من النصوص وتركبها على مصالح جماعة حاكمة في مختلف تضاريس العالم الإسلامي، وتحيل نفسها إلى حارسة للمذهب والذهب الهارب خارج ديار المسلمين، وبالأحرى إلى معتقلة لتطور المذهب وتعبيره عن الناس.
فكان الحكام المستبدون يرون مدى شعبية هذا المذهب أو ذلك، ومدى قدرته على تكريسه لسطوتهم، ويكونون على أتم الاستعداد لتغيير المذهب وجعله سائداً في البلد الذي يحكمونه متى ما كان مفيداً لتلك المصلحة.
غدا مثل هذا التسييس ميراثاً عميقاً متجذراً، توظفه الجماعاتُ السائدة لانفصال دولة عن إمبراطورية، أو في هدم إمبراطورية، ويوظفه المغامرون السياسيون إذا ما ركبوا على أجساد القبائل المطايا للوصول إلى الكراسي.
والدائرة تدور والطاحونة تفرمُ عظامَ الناس، والقصور تمتلئ ثم تتحول لخرائب، وتتجدد ثانية بالمتع والعطايا والكنوز ثم تـُهدم وهكذا دواليك، واستغلال الإسلام يقوم به أي لص أو مغامر أو ثائر كذلك، لكنه يتحول مثلهما، فلا عقول تتسع ولا معرفة عميقة تتراكم، ولا حضارة تبقى.
كان هاجس الوحدة قويا في الإرث الأول، لأن الأرثَ وحد مصالح الأغلبية، رفض صعود الطبقية العليا، الفرعونية، والملأ المالي، وجماعات الربا الفاحش، وأبناء الأكرمين، فاستخدم الملأ البنكي و”السلطوي” والجمهوري والملكي ورقة التوت الرقيقة: الصدقات، والتظاهر بالتقوى، والشكليات الديكورية الخارجية، ليتظاهر بوحدة موهومة غير حقيقية للمسلمين، تفرقها كل يوم الضرائبُ على كواهل الناس، وتراكمات الثروة هنا وتراكمات الحرمان هناك، والسجون المفتوحة هنا والسفرات والصناديق المهاجرة هناك.
صارتْ الأقفاصُ المذهبية السياسية ضرورية، للحفاظ على هذه الهيمنات، رغم أنه حتى الهيمنات الطبقية الحداثية تصاعدتْ في أغلبية الدول الأخرى من دون الحاجة إلى مثل ورقة التوت تلك، والحالُ اليائسُ يقول اسرقونا لكن دعوا عنكم التلاعب بالدين.
لكن الوحدة الدينية المأزومة الموهومة هذه تزيد الانشقاقات والحروب والمعسكرات، لأن مئات الملايين تؤمنُ بها، ويظهر مغامرون من كلِ حدبٍ وصوب، يتنطعون لمثل هذه المهمة الجليلة المستحيلة الآن، فيركبون الطائرات للمغامرات ويتمردون بالجيوش ويقتطعون أجزاء من الدول لإقامة دول قطع اليد، والديكورات سهلة، والاكسسوارات برخص التراب، ويقدم متعلمون جبالاً من الكتب للحفاظ على التفاسير العتيقة والتعصب الديني والتعصب القومي.
ويزداد حرج بعض شيوخ الدين العقلانيين من هذه التجارة في المقدسات، لكن الأغلبية ماضية في المزاد الرهيب، فيتوارى هذا البعضُ ويقدمُ السياسيون من دون أن تحدثَ عملية فصلٍ عميقة بين المقدسِ والسياسي، بما كان أساساً للتوحيد، وما هو صار أساساً للصراعات على أموال الدنيا، بما كان تراثا عزيزا ساميا توحيديا، وما هو عراكٌ على الإبل والنقود ونهب الأراضي.
لقد وصلتْ العملياتُ الصراعية إلى ما هدم دولاً (إسلامية)،(بل قلْ تاجرت في الإسلام)، ونرى أمامنا جحافل المسلمين المساكين وهم يحملون عفشهم البائس مثلهم ويرفعون أطفالهم على أكتافهم، ليفروا من الصواريخ والقنابل، والطائرات (الإسلامية) تضربُ منازلـَهم وقراهم ومزارعهم، والجماعات الرافضة (الإسلامية) تطلقُ عليهم قذائفـَها وتحرقُ مزارعَهم وعالمهم الهادئ الساكن.
وتجمع الدولة (الإسلامية) الأموالَ وعَرق الملايين في مخازنها للجماعات المقربة، والاقاليمُ النائية (الإسلامية والمسيحية وغيرها من الملل) محرومة، عطشة للماء، ويقول رئيسهم (الإسلامي) للجمهور (سنعطيكم الماء)، ويصيرُ ابناؤهم الضباط حكامَ البنوك والشركات الدنيوية و(الإسلامية)، ليواصلوا ثقافة الفتنة الكبرى، أي ليضعوا مخططات تدهور الدول الإسلامية وتمزقها، وبدلاً من الأفراس ورباط الخيل يُعدون به عدة لضرب المسلمين، يستخدمون قذائف الهاون ومدفعية الدبابات سلاحاً يرهبون به المطالبين بأخذ أنصبتهم المتواضعة في الميزانيات والأموال التي انتجوها.
انظرْ إلى خرائط الرعب في افغانستان وباكستان والسودان والجزائر، سيول من الحروب وضحاياها الفقراء، ولا جماعة طائفية سياسية قامتْ بالتبدل والتوبة من هذا الميراث الدامي.
ليس ثمة أكثر أسىً من رؤية ما يجري في باكستان الآن، فمئات الالوف من البشر يتشردون في لحظة، هنا يفقدُ الناسُ بيوتـَهم الرثة، وهناك في أمريكا يفقد الأغنياءُ فللهم الفارهة من الفساد المالي والبذخ، صورتان تمثلان وجهين لعملة دولارية واحدة: فبؤسُ باكستان تغذى من دكتاتوريات عسكرية استخدمتْ الدين مطية، ونهبتْ خيراتِ البلد ورحلتها للغرب، وتلاعبت بهذه الثروة قوى مالية غربية كبرى إلى درجة الجنون بذخاً وعسكرة. ولكن هؤلاء الفقراء الباكستانيين يتعرضون للموت في كل دقيقة، وأولئك الأغنياء يُعرض عليهم التعويض.
صحيفة اخبار الخليج
21 مايو 2009