*سبق أن تناولت في هذه الزاوية مرات عديدة الحالة المزرية التي اضحت عليها بيئة القرى والتي زادها قبحا الحال التي آلت إليها جدرانها بفعل الخرابيش السوداء العشوائية الفوضوية المقيتة التي ظلت تغطي كل جدران منازل ومساجد ومآتم ومحلات ودكاكين القرى على نحو مكثف ومتعاظم يوما بعد يوم على امتداد ما يقرب من 15 عاما منذ مطلع أحداث التسعينيات المؤسفة، ولربما لم تقل هذه الخرابيش بصورة ملحوظة سوى خلال الثلاث أو الأربع السنوات التي أعقبت اعلان جلالة الملك مشروعه الاصلاحي حتى عادت وتكاثفت بصورة جنونية منذ سنوات ثلاث خلت على نحو أشد واسوأ من التسعينيات.
واذا ما استثنينا قدم معظم بيوت القرى التي يغلب عليها المعمار الشعبي، وتخلف بنيتها التحتية، وغياب الوعي الصحي لدى معظم أهاليها البسطاء والذي ينعكس بجلاء في حال طرقها وازقتها الداخلية القذرة، دع عنك أوضاعها البيئية من الداخل، فقد كانت هذه القرى على امتداد قرون تنعم وهي قابعة في قلب الحقول والبساتين بأطيب الهواء العليل المنعش صحيا، أما الآن فقد حلت محل الحقول الغناء المصانع والورش والكراجات ماعدا الفيلل والمجمعات السكنية الراقية على أطرافها، والتي أنقذت ما يمكن انقاذه من أشجار ونخيل داخل أحزمتها الجدارية الجديدة. وهكذا أضحى هواؤها فاسدا وأبعد من ان يكون صحيا ان لم يكن قاتلا، كما في بعض القرى. وزاد من الطين بلة ان تفشت روح اللامبالاة مع غياب الوعي الصحي الشعبي، لدى شرائح شبابية وعمرية مختلفة متعلمة، وتضافر ذلك مع العبث الجنوني المقزز بجدرانها وببراميل وحاويات قماماتها التي تستخدم كذخيرة حية مشتعلة لسد الطرقات والشوارع من خلال نثر محتوياتها المحروقة المشتعلة على عرض هذه الطرقات والشوارع، فتظل أكياس القمامة عرضة لهجوم الذباب والقطط طوال الأيام التالية متراكمة على طرقات القرى بلا حاويات.
وبعد بادرة جلالة الملك الأخيرة بالعفو العام عن الموقوفين والمعتقلين خفت نسبيا أعمال الخربشة على الجدران، ولذا فكم هو جميل ورائع ويثلج الصدر انطلاق خلال الايام القليلة الماضية حملات تنظيف فنية لجدران القرى من تلك الخرابيش الكئيبة لتحل محلها رسومات ملونة وشعارات جميلة من الحكم والآيات تكتب بخطوط عربية تبدعها انامل شباب وشابات في عمل تطوعي انطلاقا من احساسهم العالي بالمسؤولية وحبهم العميق لوطنهم بكل ترابه وبكل الشعب الذي يعيش فوق هذا التراب المقدس حبة حبة وقطعة قطعة، مدنا وقرى واريافا وصحارى وسواحل و”جزرا”.
ولا شك ان هذه الحملة التطوعية الوطنية، بكل ما في كلمة “الوطنية” من معنى، والتي انطلقت تحت شعار “ارتقاء” تستحق كل الشكر الجزيل والتقدير الكبير، وعلى الأخص جنودها المجهولون من الفنانين المبدعين رسما وخطا، سواء الذين جاءوا ضمن مبادرة المرسم الحسيني ام الذين حضروا من تلقاء انفسهم بمبادرات فردية من مناطق اخرى ينتمي بعضها إلى فئات اجتماعية مختلفة. والشكر بطبيعة الحال موصول إلى القائمين على الحملة الذين قدموا صورة أنموذجية مثلى لتضافر العمل الرسمي مع العمل الشعبي كما تمثل ذلك في تعاون المجلس البلدي والبلدية في المحافظة الشمالية على تنظيم هذه الحملة.
وقد صادف مع انطلاق الحملة ان انعقدت فعالية اهلية ارى بأنها على درجة من الاهمية جرت في مركز السنابس الثقافي وتتمثل في انعقاد الملتقى الأول حول “واقع العمل التطوعي.. السنابس نموذجا”. ومن المعروف ان هذه القرية من اكثر القرى التي تأثرت بيئتها الجدارية والعامة بالاحداث الاخيرة ناهيك عن أحداث التسعينيات. وقد ذكرت قبل قليل ان روحا من اللامبالاة شاعت وسادت في صفوف شباب القرى المتعلمين والمثقفين وبخاصة في ظل خوفهم من استبداد وسيطرة “القبضايات” أبطال الخربشة على الجدران وحرق البراميل وتفجير السلندرات وسد الطرقات وقذف القنابل الحارقة.
وهذه الروح من اللامبالاة هي التي انتهى إليها بالضبط ملتقى السنابس حيث وصف العمل التطوعي في القرية بأنه تراجع مقارنة بالتسعينيات، على حد تعبير استبانة الملتقى الالكترونية، وان صح القول مقارنة قبل ثلاثة عقود خلت، اذا ما عرف جيل اليوم بأنه الى أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات كانت الاعمال التطوعية في القرى تشمل القيام بأقسى الاعمال كالتطوع الشبابي لبناء بيوت اصدقائهم في القرية وبناء المساجد.
لقد ذكرت في احدى المرات مشيدا بحملات تطوعية لتنظيف السواحل والمناطق السكنية: ما فائدة مثل هذه الحملات اذا كان التلوث سيعود مجددا الى حالته السابقة في الايام التالية؟ وهأنذا اعيد التساؤل نفسه حول جدران القرى: ما فائدة كل هذه الحملة الفنية إذا ما عادت الخرابيش السوداء الفوضوية (لا سمح الله) لتقضي على ثمار جهد ساعات طويلة من تلك الابداعات التشكيلية والخطية الجميلة؟ فما قام به المبدعون بحاجة إذًا الى تدخل مجتمعي محلي فاعل وحازم لحمايته من العبث قبل أن تعود حليمة الى عادتها القديمة.
واعتقد ان للوجهاء ورجال الدين والقيادات السياسية “المتشددة” والمرنة دورا كبيرا محوريا لحماية تلك المناظر والخطوط، فهل يمنع مثلا بعض الآيات والاقوال والحكم المأثورة المخربشين من اعادة الخربشة عليها إذا لم تمنعهم الرسومات والمناظر الجميلة الملونة لجدران قراهم؟ نرجو ذلك.
ان الحملة مازالت في تقديري في بداياتها ولاسيما ان معظم جدران القرى الداخلية مغطاة بأكملها بسواد الخرابيش والتي يزيدها قبحا خطها الرديء جدا وأخطاؤها النحوية والاملائية ناهيك عن ان العديد من شعاراتها السياسية بذيئة لفظا. والمطلوب توسيع الحملة على اوسع نطاق، ويا ليت النظر في امكانية تركيز الرسومات والشعارات على جدران المباني العامة لا المنازل التي هي بحاجة الى اعادة طلاء، وان كان بعض المباني العامة، كجدران بلدية جدحفص، الأنسب هو اعادة طلائها بدلا من الرسومات. لكن في ظل توقع أن تكون جدرانها بيضاء ناصعة مغرية للمخربشين فلا بأس من اللجوء الى الرسومات الملونة مؤقتا، عليها وعلى جدران المنازل التي يحتمل اعادة الخربشة عليها.
صحيفة اخبار الخليج
20 مايو 2009