شبابٌ غضُ الأعمار في قاعة صغيرة يثيرُ الضجيجَ العنيف. أغانٍ وكلماتٌ مبتذلة، وضربٌ على الطاولات وحناجر متحمسة للهراء، وعدم احترام للناس وصرخات نابية ضد رجال الأمن في المكان. عربدة منذ الصغر تبدو مروعة ورهيبة بشكلٍ لا يطاق.
والجو في الخارج ملبدٌ بغيوم الماء والغبار، السيارات تتحول في بضع دقائق إلى حديد محنط بالتراب.
تصورت انهم من الوافدين. لا يزيد عمر الواحد منهم على خمسة وعشرين عاماً، شبابٌ متوردون، كل الدنيا مقبلة أمامهم، ولكنهم بدوا كمدمنين قدماء، كهياكلَ عظميةٍ فاقدةٍ للدم والنور، وكشيوخٍ يائسين من الحياةِ ومستعدين للموت بلامبالاة بأي شيء!
أخرجوا بطاقاتهم ليؤكدوا انهم بحرينيون.
(ظننتكم مجنسين وعراقيين من لهجتكم؟!).
(هي الأغنية العراقية التي نرددها، الريل وحمد!).
(نعم، أعرف هذه الأغنية الحزينة جداً!). (لكن ما الذي يجعلكم بمثل هذه الحدة والصراخ والفوضى؟!).
واصلوا إثارة الضجة، واقتربوا مني ، وسألوني من أنت؟ وما هذا الورق الذي بين يديك؟!
حدقوا في بريبة. قلتُ لهم: (إنني أدون الآن ماذا تفعلون، إنني كاتب وأسجل القصص والمشاهد والقضايا التي تجري أمامي، تجعلون الناس في المكان تستاء وتهرب، تبرزون عضلاتكم وتهددون كل من يقترب منكم. لماذا هذا الصراخ والضجيج؟).
انتابهم خوفٌ غريب. حدقوا في الورق، تساءلوا: هل سوف تكتب عنا؟ نحن لا نخاف، حتى لو أوصلت هذا لرؤوسنا. نحن نعمل في وزارة مهمة. لكن هل سوف تكتب أسماءنا؟
يقول الكهلُ الوحيدُ المهدمُ فيهم مثل خرابة، ومع هذا فهو ليس كهلاً بل هو قريب لسن الشباب، ولكنه مثل تمثال محروق، أو كتلة من العظام من دون لحم أو شحم، هيكلٌ عظمي فيه لحية صغيرة وجمجمة فارغة إلا من تجاويف العظام وعينين غائرتين في الكهف العظمي، تعودان ربما لعصر آخر.
ولهذا فهو في هذه السن المبكرة حُول للتقاعد!
إنه يصرخ بشكل مستمر، رافعاً قبضته النحيفة، ومع هذا يتوجه لكل الحاضرين بالقبل والعناق بالأحضان، وهو لا يعرفهم، ثم يتجمدُ في مقعده طالباً المشروبات لكل موجود، من دون أن يضع يده في جيبه ويخرجُ فلساً.
رحتُ أدون على الورق، فهدأت ضجتهم. سكتوا. راحوا يهدئون بعضَهم بعضا.
اقتربوا مني وتساءلوا مرة أخرى: (هل تكتب عنا؟)
دهشتُ كيف أن هؤلاء المراهقين يحترمون الكلمة هكذا. دوتْ كلمة (الجريدة) بينهم كأنها يوم الحساب!
يصرخون: (هل سوف تكتبُ عنا؟) (نحن لم نفعل شيئاً)، نحن لا نخاف، انشرْ ما تريد!
لكنهم هدأوا كثيراً! في دخيلة أنفهسم هابوا سلطة الكلمة.
وتداخل مع صراخهم العنيف دخول رجل أشبه بمجنون راح يوجه لهم التهديدات، ويطالب بإغلاق المكيف، وهو بلباس أشبه بتلك التي يلبسها الهاربون من المستشفيات النفسية!
كان يوما من أيام الخماسين، هذا الذي نعيشهُ بين الشتاء الذي لم يجئ، والصيف المندفع وهو يحملُ الحرَ والغبار وزوابع كاذبة من المطر!
يتقدم القائدُ الصغيرُ في شلة الفوضى نحوي، وعمره ثلاثة وعشرون عاماً، كان أكثر أفراد هذه الشلة شغباً وصراخاً، يغني الأغاني العاطفية بكل التلميحات الجنسية والألفاظ الوقحة، يقحم شتى الكلمات النابية ويظهر كأنه خرج تواً من سجن العقوبات المشددة، ثم إذا به يظهرُ كحملٍ وديع!
يقول: (أنا لستُ عراقياً! أنا بحريني ومن المحرق!)، ويظهر بطاقته الشخصية مبرهناً على براءته من العروبة.
قلت: (أن تكون عراقياً ليست تهمة!).
هدأ الشباب واهتمت القاعة بتدخل الكلمة، وارتاح المكان قليلاً من الشغب.
سألتهُ: (لماذا تفعل بنفسك هكذا؟ الآن هي الظهيرة وكأنك كنتَ تشربُ منذ الصباح الباكر؟).
قال: ( ليس من الصباح الباكر، بل منذ أمس، لم أتوقف عن الشرب.)!
ثم تدفق الشابُ فجأة: (أنا أعمل في وزارة، وراتبي لم يتجاوز مائتي دينار، وزوجتي تعمل أيضاً!).
قلتُ ؛ (هذا شيء جيد، اثنان يعملان في أسرة واحدة، ماذا تريد أفضل من ذلك؟ فلماذا هذا اليأس؟).
قال: (زوجتي لا يزيد راتبها على مائة وسبعين ديناراً. وإيجار الشقة هو مائة وسبعون ديناراً!).
سكتُ بحيرة وأسى.
أضاف: (لدي طفلان، ومعنا عمتي، التي تداري الولدين وتعتني بهما وتقوم بأعباء البيت. الشقة مكونة من غرفتين، ويغدو الاختلاء بزوجتي مستحيلاً في هذه الظروف. أطلب من العمة ترحيل الولدين لكي أتمكن من الانفراد بزوجتي! لكن ذلك لا يتم بسهولة!).
ران حزنٌ ثقيل عليّ.
خرج الشباب من القاعة بهدوء بعد ذلك.
رحتُ أفكرُ بالشباب الذين لا يمتلكون مثل هذه الشقة الصغيرة الخاصة، والذين لم يحالوا إلى قوائم الانتظار للزواج وللسكن والأولاد، ولإيجاد وظيفة، وينتظرون طويلاً بلا أمل، ثم يحولون عذابهم هذا وغياب أمانيهم إلى غضب وكوابيس للمجتمع.
وهم الأكثر والأسرع للغضب والعنف!
صحيفة اخبار الخليج
19 مايو 2009