مئتان بالضبط من بين أكثر من خمسمئة من أعضاء المنبر الديمقراطي التقدمي اجتمعوا يوم الجمعة 15 مايو/ أيار في مؤتمرهم العام الخامس في القاعة الرئيسة لجمعية المهندسين البحرينية. من بين مؤتمرات التقدمي كان الخامس أفضلها من حيث التحضير والتنظيم والتركيز في المناقشات وحسن استغلال الوقت، وحتى في خدمة الضيوف والأعضاء. أما من حيث تناوله لمختلف قضايا الشعب والحزب فقد اعتاد المنبر حتى في أكثر ظروفه حرجا أن يخرج في كل مرة بوثائق مهمة تضيء الطريق أمام المنبريين وأصدقائهم وغيرهم ممن أراد الاستفادة منها، وتسقط حججا من أيدي حملة الحلول الالتفافية.
هذه المرة توافر شرطان مهمان أعطيا لنتائج المؤتمر أهمية بالغة. من الداخل جسد المؤتمر بحق وحدة الفكر والصف والهدف بين جميع أعضاء المؤتمر، حتى وإن اختلفت اجتهاداتهم وحمى وطيس الجدل بينهم بشأن هذه أو تلك من القضايا. وهذا ما جعله يركز بطاقة أكبر على ما حوله من قضايا المجتمع. أما من حوله فقد تميز الوضع بظروف الأزمة بوجهيها السياسي والاقتصادي. وحيالهما ناقش المؤتمر قبل وأثناء انعقاده وأقر وثيقتين مهمتين الأولى سياسية والأخرى اقتصادية تطرحان ما يمكن وصفه بحق بمضادات الأزمات.
بتجربته الذاتية شكل المنبر التقدمي مختبرا صغيرا لفعل سحر الحوار وما أنتجه من إعادة اللحمة والتآلف الرفاقي بين أعضائه بعد أن كادت تعصف بهم خلافاتهم الداخلية يوما. وكالطبيب الذي جرب الدواء على نفسه أبلى الأمين العام للمنبر الدكتور حسن مدن ومسؤوله الإعلامي المناضل فاضل الحليبي وغيرهما من قادة وكوادر المنبر طيلة الأشهر الأخيرة قبل المؤتمر الخامس بلاء حسنا في نشر مضاد الأزمة السياسية في المجتمع. وكان التقدمي قد أطلق مضاد الأزمة السياسية يوم أعلن مبادرته للحوار الوطني التي حظيت بتبني أو تأييد معظم القوى السياسية، وبدعم أو تفهم بعضها. وأصبح ملخص الوضع حولها اليوم هو أن كثيرا من مظاهر الحوار الوطني الشامل صارت طافية على السطح، إلا أن الحوار ذاته غير موجود. والسبب هو محاولة حصره بين أروقة المجلسين من جهة، ومن الأخرى غياب طرفيه المباشرين.
لقد بدأت وثيقة المؤتمر السياسية تأخذ مكانها البارز في الصحافة المحلية وفي تناول الكتاب لها بالتحليل. لكننا سنسلط الضوء هنا على الوثيقة الاقتصادية التي توازي أختها أهمية. فبهذه الوثيقة أطلق المنبر التقدمي دعوته لبرنامج مضاد لأزمة الاقتصاد الوطني كانعكاس للأزمة المالية الاقتصادية العالمية على أرضية تفاقم اختلال توازن البنى الاقتصادية الداخلية.
من أهم المشاكل التي يواجهها الباحثون عن حلول ناجعة هو، كما تشير الوثيقة، أنه «لا أحد يعرف بالضبط حجم الأزمة الحقيقي لدينا لأن الوصول إلى المعلومة الصحيحة عن واقع الحال متعذر، بما في ذلك لمن يريد دراسة العمليات الاقتصادية الجارية بشكل احترافي»، حيث إن المعلومة تُقدَم من قبل المسؤولين «مشفرة بلغة الدبلوماسية والتفاؤلية المفرطة وسط دخان بخور يطلق لطرد الشياطين وجذب المستثمرين، لكنه يعمي عن رؤية الواقع». وعليه ركزت نقاشات ودعوات المنبر على ضرورة إتاحة الوصول إلى المعلومة الاقتصادية كحق من حقوق الإنسان والمجتمع. فلا نشاط علمي حقيقي مع غياب المعلومات الحقيقية. ذلك خصوصا لأن النظام السابق للروابط الاقتصادية في المجتمع لم يعد يعمل كما كان قبل الأزمة، وأن آليات غريبة ومستجدة تشق طريقها وتحتاج إلى دراسة معمقة. مثل هذا الوضع يضطر المسؤولين ورجال الأعمال، وإن خلصت نواياهم، إلى اتخاذ قرارات ‘عمياء’ تعتمد على الحدس والخبرة الذاتية فتنعكس سلبا على العاملين والمؤسسات والاقتصاد الوطني.
وتؤكد الوثيقة على أن الجذر الاجتماعي الاقتصادي لظاهرة فقاعة المال متزامن تاريخيا في الاقتصاد الأميركي والغربي وفي اقتصادنا الوطني. ففي تزامن مع الريغانية والتاتشرية التي أطلقت العنان لسلطان أسواق المال وابتكارات المشتقات وجعلت من الخصخصة وسيلة فعالة لإعادة اقتسام المال العام لصالح القوى المتنفذة، جرى في البحرين التراجع عن نهج الستينات – السبعينات الذي شهد قيام عدد من الصناعات المتوسطة والخفيفة وجرى مقابله تعظيم دور قطاعات المال والعقار والخدمات المختلفة على حساب الإنتاج. كما أمعن في عمليات الخصخصة انحيازا لمصالح قوى اجتماعية على حساب المجتمع. من هناك انطلقت التنمية المشوهة التي تشكل اليوم الحاضنة الرئيسة لاستقبال الأزمة العالمية وإعادة إنتاجها بخصائص محلية مضاعفة، وعلى عدة جبهات دفعة واحدة : «انخفاض أسعار النفط، انخفاض أسعار الألمنيوم، تآكل سعر الدينار المرتبط بالدولار، ضيق سوق العمل، تفاقم أزمة الديون، تقلص حجم الاحتياطي العام، تآكل قيمة الاستثمارات والودائع الخارجية، تضرر استثمارات أموال التقاعد والتأمينات الاجتماعية، انسحاب مصادر التمويل الخارجية من السوق المحلية، تراجع قيم العقارات والممتلكات غير المنقولة، تأثر الصناعات المحلية، تراجع النشاط التجاري.. وغيرها». وقد انعكس ذلك على تراجع معدلات النمو، وتباطؤ إنجاز المشروعات، خصوصا الخدمية، والتوقف عن بعضها، وفي انتقال موجة تسريح الأجانب من العمل إلى تسريح أعداد متزايدة من المواطنين وتجميد الأجور وتوقف كثير من الامتيازات السابقة وكثرة حالات التأخر عن دفع الرواتب والأجور في مواعيدها المعتادة وفي تفاقم قضايا الديون، وخصوصا القروض الشخصية والتي تحذر الوثيقة من تحولها إلى مشكلة اقتصادية واجتماعية خطيرة عندما قد تسود حالة عجز عن السداد.
وفي وسط الحالة الشديدة الوطأة ترى الوثيقة الاقتصادية للتقدمي فرصة تاريخية تدعو المسؤولين إلى التقاطها. فخيار التعامل مع الأزمة لا يجب أن يكون عن طريق المسكنات التي قد تؤجل آثارها إلى حين، بل بالمضادات التي تتيح التغلب عليها بتجاوزها. وهنا تدعو الوثيقة إلى ضرورة توجه رؤية التنمية 2030 إلى التركيز جديا على إعادة بناء الاقتصاد الوطني على أسس التوازن والتكامل العضوي فيما بين القطاعات مع تغليب الإنتاجية منها. كما تدعو إلى التخلي عن أوجه الإنفاق المفرط على التسلح والنواحي الأمنية.
ومن بين سبل المعالجة بمضادات الأزمة دعى المنبر التقدمي إلى الاعتراف بجرأة وصراحة بأن القسم الأعظم من الديون، وبالتالي الفوائد عليها، مقارنة بقيمة الأصول التي تقابلها اليوم يشكل في الحقيقة جزءا مهما من فقاعة المال التي ولدها وحفزها النظام المصرفي ذاته دون أن تقابلها ثروة مادية حقيقية في الاقتصاد الفعلي. واعتبر أن النظام المصرفي والدولة الراعية له هما المتسببان الأساسيان في المشكلة، وهما أول من يجب أن يتحمل تبعاتها قبل المقترضين، وخصوصا صغارهم.
أما بالنسبة للنظام المالي والمصرفي والنقدي فقد دعا إلى إصلاح جذري حقيقي «يؤدي إلى إزاحة ‘الزبد’ من فوق المال والاقتصاد الوطني وإعادتهما إلى حجمهما الحقيقيين، والتعامل». ودعا إلى الاقتداء بالاتجاه العالمي بعد اندلاع الأزمة بتشديد الرقابة على المصارف وفرض مزيد من الضرائب على دخولها. كما دعت الوثيقة إلى ضرورة التفكير في التخلي عن نظام الضرائب الموحدة غير المباشرة والتوجه نحو نظام ضريبي قائم على مبدأ العدالة الاجتماعية «ويتجه إلى امتصاص من الدخول الفائضة لدى الأقلية لصالح غالبية المجتمع». ومن بين الإجراءات المضادة للأزمة دعا التقدمي إلى تسريع عملية الوحدة النقدية الخليجية متزامنة مع تحرير ارتباطها بالدولار الأميركي.
صحيفة الوقت
18 مايو 2009