إذًا كان ظهورُ نمطٍ آخر من الرأسمالية قد جاءَ في الشرق كحمايةٍ قومية وتحررية ضد اكتساح الرأسمالية الغربية للعالم.
وفي حين كان أصلُ الرأسمالية الغربية حركاتٍ اجتماعية خاصة تحررية، فإنها قد وصلتْ إلى السلطة وصارتْ متحكمة في الحكومات، فاستخدمتْ أدوات القوة الرسمية لفرضِ نفوذِها الاقتصادي على الأمم المتقطعة الأوصال والمتخلفة والضعيفة.
وبهذا فإن الرأسماليات التي ظهرتْ في الشرق في مجتمعات إقطاعية متخلفة وجدتْ نفسَها تلتحمُ بأجهزة الحكم منذ البداية. وفي حين وجدَ النموذجُ الخاصُ الغربي الرأسمالي مساحة كبيرة من الزمن لنموه تصل إلى أكثر من خمسة قرون، فإن النموذج الرأسمالي الشرقي اختنق في وقت محدود بين مائة أو خمسين سنة، وتحت ضغط مقاومة للسيطرة الخارجية جعلتهُ يحمي أسواقـَهُ الداخلية بأجهزةِ الدول.
ومن جهةٍ أخرى، فإن الرأسماليات الغربية لم يعد ركود الإنتاج فيها وأزماته إلا فترات مرحلية، يعودُ فيها الإنتاجُ أقوى من السابق، بفضلِ توسع الأسواق وتطور القوى المنتجة، التي التحمت فيها التطبيقات العلمية وثورتها بأدوات الإنتاج.
وبين إعادة إنتاج الداخل وتنمية الأسواق والقوى العاملة والقوى المنتجة عموماً كانت تحدث توسعاتُ هذه الرأسمالية وتطوراتـُها المتسارعة المتزايدة في التقنيات، في حين وجدتْ الرأسمالية الشرقية الحكومية (ذات النمط المُسمى اشتراكي) نفسها في انقطاع عن السوق العالمية وعن تطور القوى المنتجة الكونية.
وتتراوح عمليات التطور في الرأسماليات الشرقية، ففي بعض التجارب الخاصة كاليابان التي حذت حذو الغرب بشروط البناء الاقتصادي نفسه حدثت تطورات هائلة، في حين ان التجارب الحكومية الرأسمالية العامة المتفوقة كروسيا والصين، واجهت إشكاليات هذا النظام، من دون أن تستطيع الخروج كلياً من إشكالياته، وضاعت دولٌ أخرى في عمليات تجريبية مشوهة غالباً من دون تجذر كمصر وأغلب دول الشرق عامة.
إن العديدَ من القوانين المكتشفة عن السلعة وقوة العمل والتراكم البدائي وغيرها، التي نتجتْ داخل الرأسمالية الخاصة حيث يلعبُ السوقُ الدورَ المركزي، لن تكون مستوعبة في أغلب تجارب الشرق الحكومية الرأسمالية، حيث لا يلعب السوق الدور المركزي دور ضبط فروع الإنتاج، بل ستكونُ لها تطبيقاتٌ مختلفة ومستويات متباينة في الرأسماليات الحكومية التي غدا فيها جهازُ الدولة هو المخطط وصانعُ الحواجز الاقتصادية والحريات الاقتصادية كيفما تريدُ إدارتـُهُ السياسية، وبهيمنة الأجهزة البيروقراطية في تشكيل المصانع وتحديد قوى العمل وتوزيعها، وفي إيجاد عمليات التراكم والتجديد الإنتاجي، وتحديد القطاعات الاقتصادية وأولوياتها، حسب وجهة نظر كل دولة، وحسب كل مرحلة من تطور قوى الإنتاج، وكذلك تحديد قوى العمل الفكري الذي يعودُ كذلك لسيطرةِ الدول عبر المدارس والمعاهد، ومدى رفده للعمليات الإنتاجية أو إنقطاعهِ عنها.
وهذا لا ينفصلُ كذلك عن تاريخيةِ المجتمع وطبيعةِ تطوره، ومدى حجم ونوع العلاقات ما قبل الرأسمالية كالعبودية والإقطاع، ومدى عرقلتها أو عدم عرقلتها التطورات الرأسمالية. وكذلك مدى علاقات التبادل بين هذه الدول والعالم الخارجي، ودور هذا التبادل في تطوير أو عدم تطوير الإنتاج.
ولهذا لابد أن تـُدرس كل دولة أو كل مجموعة دول في الشرق حسب تجربتها، مقارنة بنموذج التشكيلة الرأسمالية الغربية الحديثة.
إن التشكيلة الرأسمالية الاقتصادية – الاجتماعية الغربية تعبيرٌ يُقصدُ منه تعميم الصفات التي جرتْ في كل دولة غربية لنمو الرأسمالية، فرغم تأخر دول وتقدم أخرى، ورغم تبدل الأنظمة السياسية من نظام جمهوري إلى نظام ملكي إلى سيطرة اليسار في بعض المواقع التاريخية، أو عمليات تبادل الحكم بين الليبراليين – الاشتراكيين الديمقراطيين وبين المحافظين، فإن قوانين التشكيلة العامة تبقى هي نفسها كما حددها ماركس في كتابه رأس المال.
ولكن دول الشرق أُقحمتْ في هذه التشكيلة من دون إرادة منها، فقد كانت منساقة في تواريخها الاجتماعية الخاصة، في تشكيلة تتراوح بين العبودية والإقطاع، في مستويات شديدة التباين، كوجود حتى علاقات مشاعية فيها، أو وجود تجارب إقطاعية ازدهرتْ بعلاقاتٍ بضاعيةٍ كبيرة كالدول العربية الإسلامية والصين، ولكن جميعَ هذه الدول وبغض النظر عن تلك المستويات والتقاليد المختلفة وجدتْ نفسها تـُزجُ في عالمٍ تسيطرُ عليه تلك التشكيلة الرأسمالية الغربية، وهي التي تجعلها كذلك ألا تصيرَ مثلها، وتمنعَ تطابقـَها معها، بل أن تبقى في تكويناتها العامة ما قبل الرأسمالية الحديثة كي تمدَها بالمواد الخام وتفتح أسواقها لها، أو حتى تعطيها رساميل نقدية.
ورغم أن هذه الصيغة استمرت لدى العديد من الدول ارتضتْ لنفسِها دور البقرة الحلوب، مادة خاماً وسوقاً ورساميلَ نقدية موجهة للسيد الغرب، فإن دولاً أخرى ثارت أو تمردت بشكل مغامر أو عقلاني مخطط، حسب قدرتها على قراءة التشكيلة الرأسمالية الحديثة بقوانينها المكتشفة، ومدى استقلال أجهزتها السياسية عن الاقتصاد ما قبل الرأسمالي الخاص، وبهذا فإن أنماطاً عدة من الرأسماليات تكونتْ في تجارب الشرق، بعضها المطابق وبعضها المفارق، وبعضها التجريبي الضائع وبعضها المترنح للوراء بسبب الأبنية الاقتصادية – الاجتماعية الشديدة التخلف وأجهزة حكوماته وجنونها السياسي.
وبهذا فإن التشكيلة الرأسمالية الحديثة الغربية وهي تسيطر على العالم الآخر كانت تنقلهُ إلى مستواها بسبب الصراع الذي أثارته، وتظهر منافساتـُها ومصارعاتـُها الرأسماليات الشرقية الخاصة والحكومية، في تكوين بشري رأسمالي تختلط فيه الرأسمالية الخاصة والعامة ويغدو أرفع من الرأسمالية التي وقف عندها كارل ماركس واعتقد أنها الطبعة الوحيدة، فقد ظهرتْ طبعة أخرى ورغم أنها سيئة وأقل جودة من النسخة الأولى، لكنها في مجرى الصراع الاقتصادي تـُحسنُ من النسخةِ المشوهةِ، وتستفيدُ من بعضِ جوانبـِها لتحسن عملية النسخ.
إن الطبعة الوحيدة تـُعّممُ، تغدو عولمية، بمستوياتِها المختلفة المتضادة المتداخلة.
وتحسنُ النسخ الشرقي للرأسمالية الحديثة يؤججُ الصراعَ كذلك، لأن النسخَ تـُفعل أسواقها وتحولُ المزيدَ من المهمشين والمهمشات إلى عمال، وتخفف من تسلط الدول أو تتحكم فيها كلياً، وتقلل من الاعتماد على العمل البسيط اليدوي وتوسع الاعتماد على العمل التقني وتنتقل تدريجياً للثورة الملعوماتية التقنية الرقمية.
وبهذا يغدو الشرق غرباً، ويغدو العالمُ واحداً، وتصل البشرية إلى اختناق اسواقها بالبضائع، فتبحثُ عن صيغ عيش أخرى.
صحيفة اخبار الخليج
17 مايو 2009