يؤدي ازدياد الاضطرابات في الحياة السياسية العربية إلى طريقين: إما إلى توسع السيطرة العقلانية على الاقتصاد وإما السماح للقوى المتنفذة الاستغلالية بالتلاعب به كما تشاء مصالحها.
طريق السيطرة العقلانية يقود إلى ازدهار العلوم بما فيها علوم فهم الأديان، والثقافة عامة، وإلى إعادة لحمة القوى الشعبية وامتلاكها مواردها الاقتصادية، وهي أمورٌ تقود لزعزعة الثقافة السحرية والغيبية فهي ليست سوى انعكاس لفوضوية الاقتصاد وتهميش العاملين.
أما طريق السيطرة الآخر الذي أنتج أغلب التاريخ الثقافي العربي، فهو يجعلها تزدهر، وهي تستغل مصطلحات الدين ورموزه من أجل إنتاج ثقافة لا تسيطر على واقع، ولا تجعل الجمهور يتحكم في إنتاجه الاقتصادي والخيرات التي يصنعها.
ولهذا كان نمو الموجات الأولى من الحركات الدينية يتم مع نشر السحر بصورةٍ واسعة، وهذا يتجسدُ بجعل العوالم الغيبية متحكمة تحكماً مطلقاً في الكائناتِ البشرية الشبحية، التي تفقدُ أي دورٍ خلاقٍ في تغيير المجتمع بشكلٍ عقلاني مخطط.
من هنا فهي تتوجه للجوانب الدينية الغامضة، التي يتداخلُ فيها الواقعُ مع الغيب، وهي تلك العوالم التي حسم الإسلامُ الموقفَ منها، وجعلها سلبية فاقدة التدخل في الحياة البشرية، كالجن والأرواح.
وحتى لو فرض جدلاً أنها غير موجودة فيزيائيا إلا أنها موجودة في الوعي البشري والوجود الاجتماعي، وهذا لا يغير من دورها.
فهناك استغلال للمناطق المتراوحة بين الوجود والغيب كالموت، وهي منطقة خطيرة محفوفة بالأسرار والمخاوف، وذلك عبر جعل البشر يرتعدون خوفاً منها، فتتراءى لهم الثعابين والنيران والأرواح المختلفة، التي عادة ما تـُدخل في مثل هذه المناطق البرزخية عبر التعبئة السحرية التصويرية السينمائية بقصد نزع العقلانية من وعي المسلم، ويتحول المؤدلجُ السحري هذا إلى قائد سياسي، يبطشُ بالعقل، ويهمشهُ، ويحيلُ الإنسانَ إلى أداة في يده من أجل المشروعات التي يخطط لها.
كما يقومُ بالتحكم في النصوص الدينية وإعطائها الأهداف التي يريدُها المتمثلة في زوال العقلانية، وفي اعتبار التاريخ وحركة المجتمع لا يسيران بقوانين، وأن الإسلام الأول لم ينتج خطة عقلانية للسيطرة على الاقتصاد، فتغدو منتجات التاريخ والتراث كلها بيدِ المنتج الساحر الحديث التي يوجهها كيفما شاءت مصالحُ الجماعات والدول الاستغلالية التي تتصرف بالمال العام كيفما تشاء.
إن الأغلبية الشعبية الجاهلة والأمية التي عاشتْ طويلاً في ثقافةِ السحر، يُعادُ السيطرة عليها عبر مثل هذا التداخل بين السحر والدين، فتتحول الآياتُ والجملُ المنتزعة من سياقاتِها إلى أدواتٍ للحكم والحروب والكوارث.
فيمكن للكلمة حسب هذا الفهم أن تحدث الانتصارات في الحروب، ويمكن استدعاء بعض المنجمين لمعرفة مصير الحرب مع إسرائيل، وإعطاء الجنود مفاتيح الجنان وهم يدوسون على الألغام في جبهات القتال ويفقدون شبابهم، ويغدو أمراء الجماعات هم المحددون لجنس الكفار – سواء كانوا من جنس المسلمين أم من غيرهم – بعد أن التحموا بالذوات العليا، فهم الذين يستطيعون نقل المجتمعات المتخلفة والفقيرة إلى الاسلام الأول عبر دكتاتوريات المجموعات الصغيرة الارهابية فيقررون الحياة والموت للناس.
إن حصول هذه القيادات على تلك الإمكانيات الخارقة يحيلُ الإسلامَ العقلاني التحديثي عند هؤلاء إلى شعوذةٍ سياسية، فهم قادرون على إقناع الجمهور الحاشد بأن يعود للوراء وأن يكون ضد مصالحه وتقدمه.
وهذا حدث ليس فقط لأن الجمهور جاهل وأمي، لكن لأن الجمهور يأمل في تسوية مشاكله الاقتصادية والاجتماعية الضارية بنفحةٍ سحرية، بتعويذةٍ تقدمُ له العفريتَ الهائل الذي ينقلهُ بين ليلة وضحاها إلى الجنة الأرضية، ويغدو الشباب غير المنتج وغير المشتغل في الصناعة وغير الدارس للعلوم وغير المصنعة في زنازين الدول الشرقية، يريد بلا عمل شاق أن يرى نفسه فجأة بين الحوريات، وأنهار اللذائذ حوله.
تتحول الجماعات الدينية السياسية إلى قوى خارقة ملكتْ السحرَ القادر بين عشية وضحاها على نقل المؤمنين للجنان الأرضية، فإن لم تستطع نقلتهم للجنان الأخروية، ولهذا تتحولُ سياساتـُها لبرامج سياسية فقيرة بفهم المجتمع وبفهم الدين معاً، معتمدة على زرع الأوهام في عقول الناس، فعبر وصفة (روشتة) حكم الأقليات أو الشركات الإسلامية أو شعارات العودة للشريعة، تجعل الناسَ يتصورون أن هذه الشعارات قادرة على حل أزماتهم المعيشية في غمضة عين وانتباهتها.
في حين ان أزماتهم وتخلفهم نتاج “علاقات اقتصادية” متجذرة بحاجة إلى تحليلات عميقة، ومشروعات طويلة الأمد، فنقل الملكيات العامة الحكومية للناس وإحداث تنميات كبرى، وتوزيع فوائضها للمشروعات والحاجات الأهلية، مسألة تحتاج إلى عشرات السنين، إذا عملت وتوحدت الجماهير الشعبية وتعلمت وازدهرت بالعلوم.
إن الفانوسَ السحري السياسي غير موجود، وإنه إذا لم يحدث الحراك الإنتاجي وتقلص هيمنات الدول على الاقتصادات والدخول والعمالة والفوائض، وبقيت الجماهير في أميتها وسحريتها وتخلفها وأعمالها الحرفية المحدودة، فلن يحدث أي تقدم، وسوف يزداد الفقر وتتكاثر الأرواح والأشباح.
إذا لم يحدث تعاون واسع بين القوى السياسية الديمقراطية لفهم الواقع الاقتصادي بالدرجة الأولى، وفهم عملياته ودخوله وكيفية تغييره، فلا تفيد أي وصفة أخرى، خاصة الوصفات السحرية.
صحيفة اخبار الخليج
13 مايو 2009